القائمة الرئيسية

الصفحات

إشكاليات تنفيذ العقد الدولي الصعوبات الواقعية

إشكاليات تنفيذ العقد الدولي الصعوبات الواقعية

إشكاليات تنفيذ العقد الدولي الصعوبات الواقعية
إشكاليات تنفيذ العقد الدولي الصعوبات الواقعية

المبحث الأول: الصعوبات الواقعية لتنفيذ العقد الدولي


إذا انعقد العقد الدولي صحيحا فإنه يلزم طرفيه، ويتعين على المتعاقدين الوفاء بالالتزامات التي يرتبها هذا العقد، أي أن يلتزم كل متعاقد بتنفيذ العقد وفقا لمضمونه، وهذا ما يعبر عليه بالعقد شريعة المتعاقدين.
إلا أنه قد تواجه تنفيذ العقود الدولية عدة صعوبات من شأنها أن تجعلها غير قابلة للتنفيذ، أو أن تجعل التنفيذ صعبا أو عسيرا، كما قد تجعل احترام الأطراف لالتزاماتهم المضمنة فيها أمرا مستحيلا تحققه، لاسيما في العقود الدولية الزمنية، وذلك بسبب حالات استثنائية يمكن تلخيصها في الظروف الطارئة(المطلب الأول) والقوة القاهرة(المطلب الثاني).

المطلب الأول: حالة الظروف الطارئة وحيلولتها دون تنفيذ العقد الدولي

تحتل نظرية الظروف الطارئة مكانة هامة في العقود الدولية، حيث يحرص الأطراف عادة على التنصيص عليها كشرط في تلك العقود يأخذ مسميات عديدة لعل أشهرها في الفقه الإنجليزي Clause de hardship  والأمريكي Gross indequity clause  والفرنسي La théorie de l’imprévision[1].


وتفترض نظرية الظروف الطارئة[2] تغير الظروف الاقتصادية عند تنفيذ العقد بسبب حادث لم يكن بالإمكان توقعه، بحيث يصبح تنفيذ العقد وإن لم يكن مستحيلا، مُرهقا للمدين إلى حد يهدده بخسارة كبيرة تفوق الحد المألوف، كما تُعرف هذه النظرية بأنها كل حادث عام لاحق عن تكوين العقد، وغير متوقع الحصول أثناء التعاقد، ينجم عنه اختلال بين المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال، بحيث يصبح تنفيذ المدين لالتزاماته، كما أوجبه العقد، يرهقه إرهاقا شديدا ويتهدده بخسارة فادحة[3]. فهي إذن تلك الظروف الاستثنائية العامة وغير المتوقعة التي تحدث بعد إبرام العقد أو في طور تنفيذه، والتي من شأنها أن تجعل تنفيذ الالتزام التعاقدي أمرا صعبا، وبذلك يصبح للمتعاقد التي تضرر من جراء عدم استكمال تنفيذ العقد الحق في أن يطالب بالتعويض عن كل ما أصابه من خسارة ناتجة عن ذلك الظرف.
وقد تبنت هذه النظرية العديد من التشريعات المقارنة من قبيل التشريع المصري[4] والجزائري[5] والعراقي[6]، هذا بخلاف المشرع المغربي الذي لم يحطها بأي تنظيم قانوني.
والملاحظ أن أغلب النقاشات الفقهية التي تدور في فلك تحديد الأحكام العامة لنظرية الظروف الطارئة قد أجزموا على أنها غالبا ما ترتبط بالعقود المستمرة التنفيذ أي العقود الزمنية (كعقود نقل التكنولوجيا وعقود التوريد مثلا) وأحيانا قد تنطبق حتى على العقود الفورية والتي يكون فيها التنفيذ مؤجلا، كما لو أن فلاحا مغربيا تعهد بتصدير سلعة معينة (طن من الذرة مثلا) بسعر معين بناء على عقد أبرم بينه وبين شركة إسبانية للتعليب، وكان هذا العقد المبرم عقدا فوريا تم فيه الاتفاق على تاريخ التسليم والذي هو بعد شهر من تاريخ انعقاده، وحدث خلال هذه المدة وقبل ميعاد التصدير بفترة قصيرة من الزمن أن ارتفع ثمن تلك البضاعة إلى أضعاف ما كانت عليه بسبب غارات الجراد التي التهمت المحصول، فحينئذ وفي هذه الحالة يصبح تنفيذ هذا العقد يهدد الفلاح المغربي بخسارة فادحة تتجاوز توقعاته المألوفة.
ولا تنطبق هذه النظرية إذا كانت الظروف الاستثنائية موجودة قبل إبرام العقد[7]، وهنا لابد من التذكير بضرورة التزام الأطراف خلال المفاوضات السابقة عن إبرام العقد الدولي بواجب الإعلام وواجب التحلي بحسن النية بالإفصاح بكل صدق وأمانة عن كل المعلومات التقنية المرتبطة بالسلعة محل إبرام العقد، كما لا يمكن القول بقيام حالة الظروف الطارئة إذا كان العقد قد تم تنفيذه أو كان العقد من العقود الاحتمالية مثلا أو كان عدم تنفيذ العقد نابعا عن خطأ المدين.. وهي حالات عدة تُستثنى من نطاق إعمال هذه النظرية والتي لابد لنا من أن نعرج على أهم شروط إقامتها والمتمثلة في:

1-  أن يكون العقد المراد تنفيذه عقدا زمنيا ؛ بمعنى أن تكون هنالك مدة معينة من تاريخ انعقاد العقد وتاريخ تنفيذه، كما قد تطبق هذه النظرية-كما تمت الإشارة سابقا- على العقود الفورية والتي يكون فيها التنفيذ مؤجلا؛

2-  أن يكون الحادث استثنائيا ؛ والمقصود به ذلك الحادث الذي يكون من النادر وقوعه، بحيث يبدو مختلفا وخارجا عن المألوف بحسب السير العادي للأمور[8]، ومن الأمثلة على هذا الحادث مثلا الزلازل والسيول والبراكين والحرائق(أي الكوارث الطبيعية) بالإضافة إلى الحروب والتقلبات الاقتصادية كالارتفاع أو الانخفاض الحاد للأسعار؛

3-    أن يكون الحادث عاما؛ والمقصود بالحادث العام أن أثره لا يقتصر على المدين في حد ذاته بل يشمل طائفة معينة من الناس كأهل بلد أو إقليم أو طائفة من المزارعين أو منتجي سلعة بذاتها أو متاجرين فيها[9]،  وبذلك يستفاد أن اشتراط وصف العمومية على الحادث يستبعد كل الظروف الخاصة بشكل المدين، كإفلاسه مثلا أو حريق متجره أو غرق محصوله، إلا أنه في نظرنا شرط العمومية هو غير عادل كونه يحرم المدين المرهق من الاحتماء بأحكام نظرية الظروف الطارئة قصد التخفيف من مشقته بعلة عدم إصابة غيره بذات الإرهاق، كما ينبغي الوقوف أيضا عند مفهوم الإرهاق ذاته باعتباره ذي معيار مرن وليس ثابت، فما يكون مرهقا لمدين ما قد لا يكون كذلك بالنسبة لآخر، وما يكون مرهقا لمدين في ظروف معينة قد لا يكون مرهقا لمدين آخر في ذات الظروف، فالأهم في هذا الشرط، أي شرط العمومية في الحادث، هو أن يكون تنفيذ الالتزام الواقع على المدين يهدده هو بذاته بخسارة فادحة.

4-    ألا يكون الحادث الطارئ متوقعا وقت التعاقد ؛ ذلك أنه يفترض في طرفي العقد أثناء إبرامهم للعقد الدولي في صيغته النهائية أو أثناء مفاوضاتهم السابقة عن صياغة العقد، يكونان قد درسا الظروف المحيطة به بشكل كاف، وقد أسسا توازنه الاقتصادي على كثير من الظروف المحتملة التي تدخل في نطاق التوقع المعقول لهما، غير أن الحادث الذي طرأ خلال سريان العقد كان خارجا عن توقعاتهما معا[10]، بمعنى أنه لكي تطبق نظرية الظروف الطارئة يجب أن يكون الحادث مما لا يستطيع التنبؤ به وقت إبرام العقد؛

5-    يجب ألا يكون الحادث حادثا يمكن دفعه أو تفاديه ؛ والمقصود بهذا الشرط ألا يكون في استطاعة المدين أن يدفع هذا الحادث عنه[11]، بمعنى أنه لو كان بإمكان المدين مثلا أن يتفادى فيضانا غير عادي أصاب مخزن شركته المملوء بالبضاعة ببذل جهد معقول إلا أنه لم يفعل، فلا يحق له أن يستفيد من إعمال هذه النظرية.

وبذلك إذا توافرت شروط تطبيق نظرية الظروف الطارئة السابق بيانها، كان للمتعاقد المُرهق أن يدعو المتعاقد الآخر إلى إعادة التفاوض La renégociation  حول العقد لمواجهة الظروف الطارئة التي أثرت على التوازن العقدي وذلك بهدف تعديل الالتزامات التعاقدية إلى الحد المناسب لرفع الضرر الجسيم عن الطرف الذي تأثر بتلك الظروف، وقد عبرت المبادئ التي أقرها المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص Unidroit  عن هذه الإمكانية في المادة 6-2-3 المتعلقة بآثار الظروف الشاقة حيث جاء فيها: ''في حالة الظروف الشاقة يحق للطرف الذي تعرض لها طلب إعادة التفاوض''[12]، أو في حالة ما عرض النزاع على القضاء، أن يطلب من القاضي التدخل لتعديل بنود العقد لرفع الحرج والإرهاق عن المدين وبما يوافق إرادة كلا المتعاقدين، وفي هذه الحالة قد يتدخل القاضي بزيادة الالتزام المقابل للالتزام المرهق، كزيادة السعر أو الثمن بالقدر اللازم لرفع الإرهاق، وقد يُنقص القاضي من الالتزام المرهق كأن ينقص الكمية التي يلتزم المدين بتوريدها وذلك بالقدر الذي يجعل الالتزام في الحدود المعقولة، كما قد يرى القاضي تقرير –تبعا لإرادة المتعاقدين- تأجيل تنفيذ الالتزام إلى حين زوال الظرف الطارئ شريطة ألا يلحق الدائن بدوره ضرر كبير من جراء هذا الوقف المؤقت، كما يمكنه كذلك أن يقوم بالحد من تلك الخسارة إلى القدر المألوف، ويتولى بناء على رضا الأطراف تقسيم هذه الخسارة عليهما ، سواء مناصفةً أو بالنسبة التي يراها ملائمة مع مصلحة الطرفين[13].
وما يجري على القاضي يجري بدوره على المحكم في حالة ما اختار الأطراف في البند المتعلق بالجهة المختصة للنظر في النزاعات التي قد تنشب عن تنفيذ العقد، عرضه على هيئة تحكيمية، وفي كلتا الحالتين تُراعى إرادة الأطراف معا في تعديل ما جاء في أحكام العقد.
وبالإضافة إلى نظرية الظروف الطارئة، كصعوبة تطرح في إطار تنفيذ العقود الدولية، نجد أن مبدأ القوة القاهرة La force majeure  هو الآخر يدخل ضمن المعيقات التي تجعل العقود صعبة التنفيذ، بل مستحيلة التنفيذ، وهذا هو الاختلاف ما بين نظرية الظروف الطارئة ونظرية القوة القاهرة والمتمثل أساسا في أن الأولى تجعل تنفيذ العقد مُرهقا فقط، بينما الثانية تجعل تنفيذ العقد مستحيلا، فينقضي بذلك التزام المدين. فهل يمكن القول أنه حتى في العقود الدولية التي تصطدم في إطار تنفيذها بقوة قاهرة تصبح مستحيلة التنفيذ سيرا على نهج العقود الداخلية، أم أنه يمكن للمتعاقدين العودة إلى طاولة المفاوضات لمراجعة العقد؟

المطلب الثاني: حالة القوة القاهرة وصعوبة تنفيذ العقد الدولي


قد يرجع عدم تنفيذ المتعاقد لالتزاماته التعاقدية إلى قوة قاهرة أو ما أطلقت عليه اتفاقية فيينا للبيع الدولي للبضائع لفظ ''العائق''[14]، والقوة القاهرة كظرف يترتب عنه صعوبة تنفيذ العقود، عرفتها العديد من التشريعات كالتشريع المغربي في المادة 269 من قانون الالتزامات والعقود (هذا بعكس الظروف الطارئة التي لم يخصص لها المشرع أي تعريف) كونها: ''القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان توقعه، كالظواهر الطبيعية(الفيضانات والجفاف، والعواصف والحرائق والجراد) وغارات العدو وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل الالتزام مستحيلا''[15]، فهي إذن كل حادث لم يكن بالإمكان توقعه ويستحيل دفعه مما يجعل تنفيذ العقد مستحيلا.
كما حظي مفهوم القوة القاهرة باهتمام عدة اتفاقيات دولية فاعلة في مجال التجارة الدولية كاتفاقية الجات GATT  الموقعة في مراكش سنة 1994 في المادة 15 المتعلقة بالتزامات الأعضاء المستخدمين في مجال الاتفاق بشأن الفحص قبل الشحن كونها "إكراه أو إجبار لا يقاوم وغير متوقع خلال عملية الفحص يعفي من تنفيذ الالتزام" كما تنص المادة 7 من نفس الاتفاقية بخصوص الأثر المعفي من المسؤولية والأثر التبريري للعمل الذي يقوم به المدين على أنه "لا يحدث إزاحة أو إعاقة تؤدي إلى إضرار خطير بمقتضى الفقرة 3 عندما توجد الظروف التالية خلال الفترة ذات الصلة:
أ‌-     ...
ب‌-...
ت‌-   ...وقوع كوارث طبيعية أو اضطرابات أو توقف النقل أو قوة قاهرة أخرى تؤثر بصورة كبيرة على إنتاج المنتجات المتاحة للتصدير من العضو الشاكي أو على كميتها أو نوعيتها أو أسعارها".
و يشترط لإعمال نظرية القوة القاهرة شأنها في ذلك شأن نظرية الظروف الطارئة، توفر مجموعة من الشروط في الواقعة المكونة للقوة القاهرة بحيث لا تترتب آثارها بالنسبة للعقد الدولي إلا إذا توفرت هذه الشروط وهي:

1-  أن يكون الحادث الذي سبب العائق أجنبيا عن فعل المدين بالالتزام ؛ والمقصود بذلك أن تكون الواقعة المشكلة للقوة القاهرة خارجة عن إرادة المدين، ومثال ذلك الاضطرابات الاقتصادية والظروف الطبيعية وحوادث الحرب واستيلاء السلطة العامة على أداة النقل أو البضاعة محل العقد[16]. وقد أخذت بهذا الشرط تشريعات عدة منها  التشريع المدني في المادة 1147[17]المشرع المغربي في المادة 269 من ظهير الالتزامات والعقود[18]؛

2-  شرط عدم التوقع ؛ فالوقائع التي تجعل من الالتزام التعاقدي مستحيل التنفيذ يجب أن تكون غير متوقعة الحدوث من شخص المدين الذي يتمسك بها، فإن أمكن لهذا الأخير توقع هذه الوقائع، بكيفية أو بأخرى فإن هذه الوقائع لا تمثل في حد ذاتها، بالنسبة إليه قوة قاهرة[19]. ولقد أكد على هذا الشرط الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود المغربي، كما أخذت به اتفاقية فيينا لسنة 1980 حيث نصت في المادة 79 على أنه: "لا يسأل أحد الطرفين عند عدم تنفيذ أي من التزاماته إذا أثبت أن عدم التنفيذ كان بسبب عائق يعود إلى ظروف خارجة عن إرادته وأنه لم يكن من المتوقع بصورة معقولة أن يأخذ العائق في الاعتبار وقت انعقاد العقد أو أن يكون بإمكانه تجنبه أو تجنب عواقبه أو التغلب عليه أو على عواقبه".

3-  شرط استحالة الدفع ؛ تفيد هذه الفكرة معنيين، الأول يتمثل في عدم قدرة الشخص على منع نشوء الواقعة المكونة للقوة القاهرة، والثاني في عدم تمكنه من التصدي للآثار المترتبة عنها[20]، وبهذا لا يدخل من قبيل القوة القاهرة ما يمكن دفعه أو تجنبه ولا يعتبر فيه تنفيذ العقد مستحيلا، بل يجب أن يكون الحادث من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا استحالة مطلقة.
كما أن مبادئ Unidroit تبنت هذا الشرط في بابها المتعلق بعدم التنفيذ بوجه عام[21].
أما عبء الإثبات  فهو يقع على الطرف الذي تخلف عن التنفيذ، ولا يكفي أن يثبت أن هذا الحادث خارج عن إرادته وأنه غير متوقع ولا يمكن دفعه، وإنما يجب أن يثبت أيضا أن هذا الحادث هو السبب المباشر لعدم التنفيذ، فإذا كان العائق مؤقتا فإن الإعفاء من الالتزامات التعاقدية لا يسري إلا في المدة التي يبقى فيها العائق قائما، فيلتزم بعدها المتعاقد بالاستمرار في التنفيذ بمجرد زواله، أما إذا كان العائق دائما يؤدي إلى عدم التنفيذ الكلي للالتزام فإن المتعاقد الآخر لا يكون أمامه إلا إعلان فسخ العقد[22].
ولكن قبل الوصول إلى مرحلة الفسخ، لابد من الإشارة إلى أن للأطراف، خلال الفترة التي يتوقف فيها تنفيذ العقد مؤقتا بسبب الواقعة الناتجة عن القوة القاهرة، الحق في العودة إلى طاولة المفاوضات، كما رأينا بالنسبة لنظرية الظروف الطارئة[23]. وقبل ذلك تجدر الإشارة إلى أنه في مرحلة المفاوضات القبلية يمكن لهم أن يوردوا في إطار صياغتهم للعقد النهائي بندا يدعى ''بند القوة القاهرة''[24] وهو يتضمن مجموعة من العناصر الأساسية وهي:
1- تعريف المقصود بالقوة القاهرة؛
2- وضع قائمة حصري للأحداث الواقعية التي يمكن اعتبارها من أحداث القوة القاهرة؛
3- واجب الإخطار في حالة نشوء القوة القاهرة؛
4- التصرفات التي يجب على الطرف المتأثر بحدث القوة القاهرة اتخاذها؛
5- الآثار المترتبة على حدوث القوة القاهرة[25]، وفي هذا العنصر بالذات يمكن لهم أن يتفقوا إما على تقديم التعويضات أو الغرامات أو تمديد مدة تنفيذ العقد إلى حين زوال القوة القاهرة أو تنفيذ التزام معين لم يتأثر بواقعة القوة القاهرة.. بالإضافة إلى اشتراط إعادة التفاوض.
ويستمد مبدأ إعادة التفاوض أساسه من إرادة الأطراف، كما يخضع لمجموعة من القواعد الموضوعية والشكلية[26]، ويتخذ شرط إعادة التفاوض في العقد صيغا عديدا كمثلا ''.. سوف يتقابل الأطراف في أقرب مدة ممكنة لفحص الآثار التعاقدية التي سببتها القوة القاهرة..'' أو ''..إذا استمرت القوة القاهرة مدة أكثر من(ويحددون المدة) فإن المتعاقدين سوف يتفقون على إيجاد حل يواجهون به الأحداث التي وقعت..''
وتجدر الإشارة إلى مبادئ Unidroit قد أشارت إلى شرط إعادة التفاوض وذلك في الفقرة الأول من المادة 6-2-3 حينما قضت فيها بأنه في حالة شرط الصعوبة وتغير الظروف يكون للطرف المتضرر طلب إعادة فتح باب المفاوضات، ويجب أن يقدم الطلب دون تأخير وأن يكون مسببا[27].
كما يحكم شرط إعادة التفاوض عدة قواعد شكلية، أهمها مدة قبول إعادة التفاوض، فبسبب تغير الظروف التي تفرض على المتعاقد المتضرر من هذا التغيير وصاحب المصلحة من مراجعة العقد، أن يوجه إشعارا إلى المتعاقد الآخر وذلك في أسرع الآجال[28]، فإذا تم هذا الإشعار فإننا نكون أمام فرضيتين: الأولى تتمثل في حالة قبول المتعاقد الآخر لمسألة مراجعة العقد، والثانية فتتمثل في حالة فرض المتعاقد الآخر هذه المراجعة وفي هذه الحالة يتم فسخ العقد.
أما الشروط الموضوعية فهي تتمثل أساسا في شرط التحلي بمبدأ حسن النية أثناء عملية إعادة التفاوض، وحسن النية في إعادة التفاوض يتحقق بطرح المتعاقدين اقتراحات جادة ومعقولة تهدف إلى التوصل إلى حل اتفاقي بين الطرفين وألا تخدم مصالح خاصة لأحدهما على حساب الآخر. فكلما كانت الاقتراحات معقولة كلما تحققت الغاية من إعادة التفاوض.
وعملية إعادة التفاوض إما أن تكلل بالنجاح وإما أن يكتب لها الفشل، ففي حالة نجاح إعادة التفاوض يتم استمرار تنفيذ العقد الدولي وفق المقترحات الجديدة التي أبداها الأطراف على طاولة المفاوضات والتي ينتج عنها تجديد العقد، أما في حالة فشل إعادة التفاوض، ففي هذه الحالة يكون الفسخ هو الحل المتبقي للأطراف، وقبله يمكن لهم اللجوء إلى وسيط أو خبير[29] لما يتميزان به من حبكة وشطارة في تقريب وجهات نظر المتعاقدين وتقديم الاقتراحات والحلول المفيدة والساعية إلى إنقاذ العقد، أما في حالة فشلهما، تُحل الرابطة التعاقدية عن طريق الفسخ مع الإبقاء على حق الطرف الذي تضرر من انحلال الرابطة التعاقدية في المطالبة بالتعويض كما أشارت إلى ذلك اتفاقيات دولية عديدة من أهمها اتفاقية فيينا لسنة 1980 حينما قضت في الفقرة الأولى من المادة 81 على ما يلي: "بفسخ العقد يصبح الطرفان في حل من الالتزامات التي يرتبها عليها العقد، مع عدم الإخلال بأي تعويض مستحق..."

[1]  محمد حسين منصور: "العقود الدولية: ماهية العقد الدولي و أنواعه و تطبيقاته، مفاوضات العقد و إبرامه، مضمونه و آثاره وانقضائه، الصياغة و الجوانب  التقنية و الائتمانية و الإلكترونية، الاختصاص القضائي و الإلكتروني، التحكيم و قانون التجارة الدولية"، دار الجامعة الجديدة للنشر –الإسكندرية- طبعة 2009،ص7.
[2]  كانت هذه النظرية في البدء معروفة في القانون العام كشرط ضمني في المعاهدات الدولية، ثم انتقلت إلى القانون الإداري بعد الحرب العالمية الأولى، فكان أول تطبيق لها من طريف مجلس الدولة الفرنسي في قضية غاز بوردو الشهيرة، وتعود أحداث هذه القضية إل تاريخ 30 مارس 1915 حيث أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكما طبق فيه لأول مرة نظرية الظروف الطارئة. ذلك أن شركة غاز بوردو، وهي شركة تقوم بتوزيع الغاز كانت قد أبرمت عقدا إداريا يلزمها بتزويد مدينة بوردو بالغاز مقابل سعر معين، غير أن ظروف الحرب جعلت أسعار الفحم اللازم لإنتاج هذا الغاز يرتفع بشكل كبير جدا، فأصبح تنفيذ شركة الغاز لالتزامها أمرا مرهقا لها ويكبدها خسائر فادحة، لذلك تدخل مجلس الدولة الفرنسي وعدل شروط العقد استنادا على فكرة الظروف الطارئة. نقلا عن حياة البراقي :''النظرية العامة للالتزامات: مصادر الالتزام''، مكتبة السلام، الرباط، السنة الجامعية 2009-2010، ص 129.
[3]  أحمد مروك:''شرط إعادة التفاوض في عقود التجارة الدولية''، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق، جامعة الجزائر، كلية الحقوق بن خدة، السنة الجامعية 2014-2015، ص 52.
[4]  تنص المادة 147 من القانون المدني المصري على ما يلي:
''1- العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون.
 2- ومع ذلك إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعاً للظروف وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يردّ الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك."
[5]  لم يعرف المشرع الجزائري هذه النظرية وإنما اكتفى فقط بذكر الشروط والآثار المترتبة عنها حيث جاء في الفقرة 3 من المادة 107 من القانون المدني الجزائري ما يلي: ''غير أنه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها وأن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلا، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي تبعا للظروف وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك."
[6]  تنص المادة 146 من القانون المدني العراقي على ما يلي: ''1 – إذا نفذ العقد كان لازماً ولا يجوز لأحد العاقدين الرجوع عنه ولا تعديله إلا بمقتضى نص في القانون أو بالتراضي. 2 – على انه إذا طرأت حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وان لم يصبح مستحيلاً، صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للمحكمة بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن تنقص الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إن اقتضت العدالة ذلك، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك."
7  محمد حسين منصور: "العقود الدولية: ماهية العقد الدولي و أنواعه و تطبيقاته، مفاوضات العقد و إبرامه، مضمونه و آثاره وانقضائه، الصياغة و الجوانب التقنية و الائتمانية و الإلكترونية، الاختصاص القضائي و الإلكتروني، التحكيم و قانون التجارة الدولية"، مرجع سابق، ص194 –بتصرف.
[8]  عبد الحي حجازي:''النظرية العامة للالتزام''، الجزء الثاني،  مصادر الالتزام، طبعة 1953، ص 167.
[9]   أحمد مروك:''شرط إعادة التفاوض في عقود التجارة الدولية''، مرجع سابق، ص 57و 58- بتصرف.
[10] جبار يعقوب:''فسخ العقد الإداري لاستحالة التنفيذ بسبب الظروف الطارئة''، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد السابع 2008، ص 151- بتصرف.
[11]  محمد حسين منصور: "العقود الدولية: ماهية العقد الدولي و أنواعه و تطبيقاته، مفاوضات العقد و إبرامه، مضمونه و آثاره وانقضائه، الصياغة و الجوانب التقنية و الائتمانية و الإلكترونية، الاختصاص القضائي و الإلكتروني، التحكيم و قانون التجارة الدولية"، مرجع سابق، ص 198.
[12]  تنص الفقرة الأولى من 6-2-3 من مبادئ اليونيدروا المتعلقة بآثار الظروف الشاقة على ما يلي: "في حالة الظروف الشاقة، يحق للطرف الذي تعرض لها إعادة طلب التفاوض، ويتعين توجيه هذا الطلب مسببا دون تأخير غير مبرر."
[13]   محمد حسين منصور: "العقود الدولية: ماهية العقد الدولي و أنواعه و تطبيقاته، مفاوضات العقد و إبرامه، مضمونه و آثاره وانقضائه، الصياغة و الجوانب التقنية و الائتمانية و الإلكترونية، الاختصاص القضائي و الإلكتروني، التحكيم و قانون التجارة الدولية"، مرجع سابق، ص 200و 201- بتصرف.
[14]  أطلقت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن البيع الدولي المبرمة بفيينا 1980 على مفهوم القوة القاهرة اصطلاح ''العائق'' وذلك في عدة فقرات من المادة  79كالفقرة الأولى:''لا يسأل أحد الطرفين عن عدم تنفيذ أي من التزاماته إذا أثبت أن عدم التنفيذ كان بسبب عائق...'' والفقرة الثالثة:''يحدث الإعفاء المنصوص عليه في هذه المادة أثره خلال المدة التي يبقى فيها العائق قائما.''
[15]  الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331(12 غشت 1913) بمثابة قانون الالتزامات والعقود، الجريدة الرسمية عدد 5980 بتاريخ 23 شوال 1432 (22 شتنبر 2011)، ص 4678.
[16]  زمام خليل:''الخدمات المصرفية ودورها في تنفيذ العقود الدولية''، مذكرة تخرج لنيل شهادة الماجستير تخصص قانون الأعمال، جامعة الجزائر، كلية الحقوق،  ص 107.
[17]   L’article 1147 du code civil français dispose que :’’ L'incapacité de contracter est une cause de nullité relative.’’
[18]  أشارت المادة 269 من قانون الالتزامات والعقود إلى شرط العائق الأجنبي بتنصيصها على ما يلي: ''القوة القاهرة هي كل أمر لا يستطيع الإنسان توقعه...''
[19] محمد الكشبور:''نظام التعاقد ونظريتا القوة القاهرة والظروف الطارئة، دراسة مقارنة من وحي حرب الخليج''، بدون ذكر اسم دار النشر، طبعة 1993، ص 29- بتصرف.
[20]  نفس المرجع ، ص 33.
[21]   تنص المادة 7-1-7 في فقرتها الأولى على ما يلي: ''يعفى المدين من المسؤولية عن عدم التنفيذ إذا أثبت أن عدم التنفيذ يرجع إلى حادث لا سيطرة له عليه وكان من غير المعقول أن يدخله في حساباته عند إبرام العقد أو كان لا يستطيع تجنب وقوعه أو تفاديه أو تجاوز نتائجه."
[22]  زمام خليل:''الخدمات المصرفية ودورها في تنفيذ العقود الدولية''ـ مرجع سابق، ص 107.
[23] وتبقى نظرية الظروف الطارئة مختلفة عن القوة القاهرة سواء من حيث النطاق، فالظرف الطارئ يجب أن يكون عاما بينما القوة القاهرة يكفي أن تلحق المدين وحده، أو من حيث الأثر، فالظرف الطارئ يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا بينما القوة القاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا.
[24] Paul Henri Antonmattei :’’Contribution à l’étude de la force majeure’’, bibliothèque de droit privé, tome 220, Paris 2013, page 128 .
[25]  صالح بن عبد الله بن عطاف العوفي: "المبادئ القانونية في صياغة عقود التجارة الدولية"، معهد الإدارة العامة، طبعة 1997 السعودية، ص242- بتصرف.
[26]  فاطمة داحا:''القوة القاهرة في عقود التجارة الدولية''، رسالة لنيل الماستر في القانون الخاص تخصص قانون الأعمال والمقاولات، جامعة محمد الخامس-الرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- السويسي، السنة الجامعية 2011-2012، ص 37.
[27]  جاء في الفقرة الأولى من المادة 6-2-3 من مبادئ اليونيدروا ما يلي: ''في حالة الظروف الشاقة، يحق للطرف الذي تعرض لها طلب إعادة التفاوض، ويتعين توجيه هذا الطلب مسببا دون تأخير غير مبرر.''
[28]   فاطمة داحا:''القوة القاهرة في عقود التجارة الدولية''، مرجع سابق، ص 39.
[29]  نفس المرجع، ص 46- بتصرف.
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات