القائمة الرئيسية

الصفحات

النظام السياسي الجزائري



تقديم

يستند كل نظام سياسي على مقومات ومبادئ يعكس من خلالها إطاره، توجهه، وكذا أهدافه، لذلك كان من الضروري أن تكون هذه المقومات والمبادئ واضحة بما يكفي لتأمين دقة استنتاج طبيعة النظام السياسي وضمان سلامة توقع ما ينتج عن تصنيفه ضمن هذا الصنف أو ذاك.
لم تختلف الجزائر عن غيرها من الدول بتوفرها على نظام سياسي يقوم على مجموعة من الدعائم تجسد منطلقاته، توجهاته، وغاياته لكنها بالمقابل وفرت  لنظامها السياسي صفة التميز نتيجة لخصوصية علاقته مع دعائمه والتي جعلت منه نظاما مفارقا لغيره من الأنظمة السياسية يصعب تكييف طبيعته ويعسر إيجاد تصنيفا له ضمن الأنماط المألوفة للأنظمة السياسية، مشكلا بذلك صورة لنظام سياسي خلق الاستثناء لنفسه و أسس دعائمه الخاصة بشكل أمن به استمرارية بيئة سياسية أحادية التوجه أفرزت العديد من المفارقات والتناقضات.
جاءت هذه الورقة البحثية لتحاول إيجاد إجابة حول الطبيعة التي يمكن أن تحتوي خصوصية النظام السياسي الجزائري من خلال البحث بالأساس عن مواطن التميز واستنتاج ما نجم عنها من تبعات على المستوى العملي .

 

المبحث الأول: مظاهر خصوصية النظام السياسي الجزائري


يقر القانون الدستوري أنماطا مختلفة للأنظمة السياسية يرجع معيار تصنيفها وفق ما اعتمده غالبية الفقه الدستوري لكيفية تعاملها مع مبدأ الفصل بين السلطات وتطبيقها له، فإذا رفض النظام السياسي رفضا مطلقا الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات كان نظام حكومة الجمعية، وإذا ما اخذ به وطبقه تطبيقا مرنا كان نظاما برلمانيا، وان فصل بين السلطات فصلا جامدا كان نظاما رئاسيا،  أما إذا مزج بين منطلقات النظامين الرئاسي والبرلماني معا عٌدّ نظاما شبه رئاسي.
لو تسقط المعطيات أعلاه على النظام السياسي الجزائري رغبة في معرفة نوعه، سيكون من الصعب إيجاد تصنيفا له ضمن الأنماط المذكورة وهذا راجع بالأساس لخصوصية تعامله مع مبدأ الفصل بين السلطات، فقد أخذ بصورته المرنة من خلال إقراره بوجود سلطات ثلاث حدد مجال اختصاص كل واحدة منها ووضع مساحات للتعاون فيما بينها (السلطتين التنفيذية والتشريعية على وجه الخصوص) لكنه انحرف عن التطبيق المرن لمبدأ الفصل بين السلطات عندما وفر للسلطة التنفيذية آليات تهيمن بها على السلطة التشريعية تحت غطاء التعاون، وما زاد الأمر خصوصية هو إقراره لضمانات الهيمنة حصرا لمؤسسة رئاسة الجمهورية، وهذا ما سيكون محل تفصيل وتحليل في مطالب هذا المبحث:

المطلب الأول: استئثار رئيس الجمهورية بسلطات امتيازيه

لم يخرج الدستور الجزائري لسنة 1996عن المألوف باعترافه بوجود ثلاثة سلطات تتمثل في كل من السلطة التنفيذية، التشريعية، والقضائية تختص كل واحدة منها بممارسة اختصاص أصيل تبين إطاره أحكام الدستور ضمانا لنظامية تجسيدها للدور المنوط بها.
بقراءة أولية لدستور 1996 وما لحقه من تعديل في أحكامه المتعلقة بتنظيم السلطات المضمنة في الباب الثاني منه قد يؤخذ انطباعا بان المؤسس الدستوري الجزائري يطبق مبدأ الفصل بين السلطات بصورته المرنة فالإقرار الدستوري بوجود ثلاثة سلطات موجود، توزيع الصلاحيات بينها متوفر وتمكين كل واحدة منها بسلطات البت والمنع في مواجهة الأخرى هو الأخر معترف به.
بإخضاع نفس الأحكام لقراءة ثانية تشخص بعمق كيفية رسم مجال اختصاص السلطات وتبحث عن تبعات تمكين كل واحدة منها بسلطة البت والمنع في مواجهة الأخرى فان النتائج ستعكس تطبيقا خاصا لمبدأ الفصل بين السلطات في الجزائر يظهر شكليا فصلا مرنا بين السلطات أما فعليا فيجسد امتياز السلطة التنفيذية ممثلة برئاسة الجمهورية عن باقي السلطات وبالأخص السلطة التشريعية.
فإذا كان من الطبيعي تمكين رئيس الجمهورية من صلاحيات تضمن قدرته على تأمين وحدة الدولة والحفاظ على أمنها وكذا تجسيد سياستها داخليا وخارجيا من خلال الاعتراف له بقيادة الدفاع، تقرير سياسة الأمة الخارجية والمساهمة في تمثيل السلطة التنفيذية، فان الغير طبيعي في الأمر هو تمكينه من الانفراد بالسلطة في  الدولة بحجة ما ذكر.
وإذا كان التطبيق المرن لمبدأ الفصل بين السلطات يتقبل إقرار سلطة تنظيمية لرئيس الجمهورية تمكينا له من المشاركة في إنتاج القواعد القانونية كصورة تجسد تجاوب السلطة التنفيذية مع السلطة التشريعية، فانه يرفض بالمقابل استغلال المؤسس الدستوري غاية التجاوب لتمكين رئيس الجمهورية من الهيمنة على الوظيفة المعيارية للسلطة التشريعية وذلك بإقرار مجال واسع له غير محدد النطاق يمارس فيه سلطته التنظيمية -اعترفت به المادة 125- بمقابل تحديد مجال ممارسة المجلس الشعبي الوطني لسلطته التشريعية الأصيلة حصرا في المادتين 122 و123، مع تدعيم هذه المكنة بمكنة أخرى تمثلت في الاعتراف له بممارسة اختصاص تشريعي عن طريق  إصدار أوامر رئاسية في حالات شغور البرلمان، فترة مابين دورتيه، الحالات الاستثنائية، وكذا عدم مصادقة البرلمان على قانون المالية.
تندرج في إطار السلطات الامتيازية لرئيس الجمهورية أيضا سلطة التعيين المخولة له والتي جعلته يبسط هيمنته على المناصب العليا في الدولة سياسية كانت، إدارية، عسكرية أم قضائية، حيث نظمها الدستور بشكل أظهرها كسلطة أحادية يحتفظ فيها بسلطة اتخاذ القرار حتى و إن كان ملزما في  البعض منها بتلقي اقتراحات و أراء من أطراف أخرى، ما يقر له ممارسة سلطة رئاسية على من عينهم ينتج عنها صلاحية توجيه أوامر لهم، تقويم أعمالهم، وكذا عزلهم، الأمر الذي يجعل من افتراض ولائهم له يفرض نفسه بقوة على الأقل من باب واجب الطاعة الذي تفرض السلطة الرئاسية أن يطبقه المرؤوس تجاه رئيسه.
        تركيز سلطة التعيين بيد رئيس الجمهورية أظهرها الدستور بشكل مباشر و صريح، حيث نصت المادة 77 منه على استئثاره بسلطة تعيين الوزير الأول ونوابه وإنهاء مهامهم، كما نصت المادة 78 على سلطته في التعيين في الوظائف والمهام المنصوص عليها في الدستور، الوظائف المدنية والعسكرية في الدولة، التعيينات التي تتم على مستوى مجلس الوزراء، تعيين كل من رئيس مجلس الدولة، الأمين العام للحكومة، محافظ بنك الجزائر، القضاة، مسؤولو أجهزة الأمن، الولاة، وصولا لسفراء الجمهورية والمبعوثين فوق العادة إلى الخارج، فيما أشارت المادة 79 إلى سلطته في تعيين أعضاء الحكومة بعد استشارته للوزير الأول الذي يبقى رأيه استشاريا فقط مادامت المادة قد نصت صراحة على أن اتخاذ قرار التعيين بيد رئيس الجمهورية ولم تظهر أي إشارة إلى إلزامية اخذ هذا الأخير برأي الوزير الأول بخصوص تلك التعيينات.
لم يقتصر مظهر الامتياز في سلطات رئيس الجمهورية على الحالات العادية فقط وإنما امتد إلى الحالات الغير عادية التي وصفتها المواد 91، 93،95 من الدستور على التوالي بحالات الحصار والطوارئ، الحالة الاستثنائية، الحرب، حيث يحتفظ فيها رئيس الجمهورية بسلطة اتخاذ القرار سواء في إقرارها أو في إنهائها فعلى الرغم من نص ذات المواد  إضافة للمادة 94 على وجوب لجوئه قبل إعلانه للحالات السالفة الذكر للمجلس الأعلى للأمن، مجلس الوزراء، المجلس الشعبي الوطني، مجلس الأمة، إضافة للوزير الأول والمجلس الدستوري في حالات الحصار والطوارئ والحالة الاستثنائية، إلا أنها لم تجعل من آرائها ملزمة له والدليل على ذلك عدم احتوائها على ألفاظ توحي بحيازة تلك الأجهزة لسلطة التقرير إذ اقتصرت على استماع رئيس الجمهورية لها بالنسبة للمجلس الأعلى للأمن واستشارتها بالنسبة للأجهزة الأخرى.

المطلب الثاني: انفراد رئيس الجمهورية بتجسيد السلطة التنفيذية

رسم المؤسس الدستوري بدءا من دستور سنة 1989 شكلا جديد للسلطة التنفيذية وجعلها ثنائية يقع على كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة تجسيدها بعدما كان تمثيلها مخول حصرا لرئيس الجمهورية في كل من دستوري 1963 و1976.
حاول دستور 1989 وضع ضمانات تؤمن تكريسا فعليا لثنائية السلطة التنفيذية وذلك عندما اعترف لرئيس الحكومة بصلاحيات تؤهله لتجسيد مشاركة فعلية لرئيس الجمهورية في تمثيل السلطة التنفيذية وأداء الدور المنوط بها، حيث اقر له صلاحية توقيع مراسيم تنفيذية والتعيين في وظائف الدولة التي تخرج عن اختصاص رئيس الجمهورية دون أن يقيده بالرجوع لهذا الأخير واخذ موافقته قبل إعمالهما، كما اقر له صلاحية ضبط البرنامج الخاص بحكومته واتخاذ تدابير تنفيذه في حال موافقة المجلس الشعبي الوطني عليه، وبالتالي دستور 1989 وبإعطائه هامش من الاستقلالية لرئيس الحكومة في إعماله وممارسته لبعض الصلاحيات يكون قد عكس سعيه في تحقيق ثنائية فعلية على مستوى السلطة التنفيذية.
تبنى دستور 1996 ما جاء في دستور 1989 في الجانب المتعلق بثنائية السلطة التنفيذية، لكن التعديل الذي لحق به سنة 2008 بموجب القانون رقم 19- 08 المؤرخ 15 نوفمبر 2008 احدث تغييرا جذريا على مستوى السلطة التنفيذية جسد به تطبيقا خاصا لثنائية السلطة التنفيذية تناقض فيه الشكل مع المضمون.
فالتعديل الدستوري لسنة 2008 أبقى السلطة التنفيذية ممثلة بمنصبي رئيس الجمهورية وما سماه بمنصب الوزير الأول لكنه لم يرسي أي ضمانات تكرس ثنائية فعلية للسلطة التنفيذية فاسحا بذلك المجال لرئيس الجمهورية للانفراد بقيادتها، فبعد أن كان الوزير الأول متحررا  في إعمال سلطتي توقيع المراسيم التنفيذية والتعيين في بعض وظائف الدولة من اخذ الموافقة المسبقة لرئيس الجمهورية عليهما، أصبح وفقا لأحكام المادة 85 من التعديل الدستوري لسنة 2008 ملزما بأخذها، وبعد أن كان في دستور 1989 مستأثرا بمكنة الاستقلالية في ضبط برنامج الحكومة فان تعديل 2008 جرده من هذه المكنة واقتصر دوره على إعداد خطة عمل تنفذ برنامج رئيس الجمهورية لا غير مع الاهتمام باجراءات عرضها على البرلمان والفوز بثقته، لا بل الأكثر من هذا تحمل مسؤولية سياسية كتبعة لعدم موافقة المجلس الشعبي الوطني لمخطط عمل برنامج ليس ببرنامج حكومته بالأساس.
هذه المفارقات تطرح في الحقيقة تساؤلا حول طبيعة دور الوزير الأول كممثل للقطب الثاني للسلطة التنفيذية، فهل يمكن أن تكون السلطة التنفيذية ثنائية فعلا إن كان دور احد قطبيها يقتصر فقط على ممارسته لسلطة رئاسية على وزراء حكومته تأمينا لتنسيق عملهم وفق ما يضمن به حسن تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية؟.

المطلب الثالث: تحرر رئيس الجمهورية من المسؤولية سياسيا وتحمله لمسؤولية جنائية شكليا

تقوم المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية بطريقتين واحدة عن طريق شعبه باعتباره يستمد شرعيته منه، والأخرى تكون نتاجا لرقابة برلمانية تمارس عليه.
تعد المسؤولية السياسية التي تقوم وفقا للطريقة الأولى مسؤولية اعتبارية لا ينص عليها الدستور وإنما يتحملها الرئيس معنويا إذا ما رفض الشعب تجديد الثقة فيه لعهدة أخرى أو إذا ما رفض التصويت على مشروع طرحه عليه عن طريق الاستفتاء تعبيرا منه عن رفضه لسياسته وعدم ثقته في شخصه، لأنه بهذا يدرك أن رفض الشعب لمشروعه أو عدم تجديده للثقة فيه جاء كردة فعل يبدون من خلالها عدم رضاهم على أعماله السابقة مما يجعله يقيم بنفسه مسؤوليته السياسية بالرغم من أن الدستور لا يلزمه بذلك.
أما المسؤولية السياسية التي تقوم وفق الطريقة الثانية فتكون عن طريق تمكين البرلمان من صلاحية إقامة مسؤولية رئيس الجمهورية عن طريق الآلية الرقابية المتمثلة في سحب الثقة منه.
لم يشر المؤسس الدستوري للمسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية إلا مرة واحدة وكان ذلك في دستور 1963 حيث اعتبرت المواد 47 ، 55 و 56 رئيس الجمهورية مسؤولا أمام المجلس الوطني إذا ما أودع هذا الأخير  لائحة سحب الثقة ووقعها من طرف ثلث النواب الذين يتكون منهم المجلس، أما باقي الدساتير فلم تشر إلى أي إمكانية لتحمل رئيس الجمهورية لمسؤولية سياسية بل الأكثر من هذا صنع التعديل الدستوري لسنة 2008 مفارقة عجيبة عندما جعل الوزير الأول المسؤول الوحيد عن عمل الحكومة أمام البرلمان بالرغم من أن الحكومة  بالأساس لا تمتلك برنامجا مستقلا بل تنفذ برنامج رئيس الجمهورية بخطة عمل يعدها الوزير الأول، مكرسا بذلك استثناء مفاده قيام المسؤولية على الفرع ( خطة عمل الحكومة)لا على الأصل ( برنامج رئيس الجمهورية).
بالنسبة للمسؤولية الجنائية لرئيس الجمهورية اقر التعديل الدستوري لسنة 2008 صراحة تحمل رئيس الجمهورية لمسؤولية جنائية ورهن قيامها بارتكابه لجريمة الخيانة العظمى حيث جاء في نص المادة 158 منه ما يلي:
"تؤسس محكمة عليا للدولة، تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، وللوزير الأول عن الجنايات والجنح، التي يرتكبانها بمناسبة تأديتهما لمهامهما.
يحدد قانون عضوي تشكيلة المحكمة العليا للدولة وتنظيمها وسيرها وكذلك الإجراءات المطبقة".
ما يعاب على النص أعلاه هو عدم تحديده لطبيعة الأفعال التي يمكن أن يرتكبها رئيس الجمهورية وتأخذ تكييف جريمة الخيانة العظمى كما أن ذات النص اغفل تحديد نوع العقوبات التي سيتعرض لها في حال ثبوت الجرم عليه.
وفضلا عن هذا أشارت ذات المادة إلى أن محاكمة رئيس الجمهورية عن تهمة الخيانة العظمى تختص بها محكمة عليا للدولة يحدد تشكيلتها، تنظيمها، وسيرها والإجراءات المطبقة على مستواها قانون عضوي وفي الواقع لم تؤسس لحد كتابة هذه الأسطر ما سماه الدستور بالمحكمة العليا للدولة ولم يصدر أي قانون عضوي يحدد نظامها القانوني إلى يومنا هذا بالرغم من مرور ثمانية سنوات على التعديل الدستوري لسنة 2008، وبالتالي يطرح السؤال هنا: لماذا لم تنشا المحكمة العليا للدولة في الجزائر؟ ولماذا لم يصدر قانونها العضوي مع سلسلة القوانين العضوية التي وصفت بالقوانين الإصلاحية سنة 2012؟ هل هذا راجع للوثوق الأعمى في شخص رئيس الجمهورية واستبعاد افتراض ارتكابه لجريمة الخيانة العظمى؟
وهل ننتظر ارتكاب رئيس الجمهورية لجريمة الخيانة العظمى حتى تباشر ترتيبات إنشاء التجسيد الميداني للمحكمة العليا للدولة؟


المبحث الثاني: خصوصية تطبيق مبدأ الديمقراطية في النظام السياسي الجزائري


ما تزال الديمقراطية محتفظة بمكانتها ضمن أولويات الشعب الذي يعتبرها فضاءً يضع الحكم أو السلطة بيده وينطلق من مبادئ تحترم كيانه، حقوقه، وحرياته أهمها مبدأ حكم الشعب، التعددية، مبدأ الإجماع، مبدأ تقييد السلطة وكذا مبدأ سلطة القانون.
طموح الشعب للديمقراطية جعلها تلقى رواجا لدى القادة السياسيين فكل رئيس دولة يحاول كسب ثقة شعبه من خلال إقناعه بسعيه لإرساء نظام سياسي يعكس ديمقراطية حقة.
ركب النظام السياسي الجزائري هو الآخر موجة الديمقراطية وأراد يكون في وضع تعايش سلمي بينه وبين شعبه من خلال إظهار سعيه لتطبيق متطلبات الديمقراطية وبناء دولة القانون.
لكن خصوصية تطبيق النظام السياسي الجزائري لمتطلبات الديمقراطية جعلته ينتج ديمقراطية خاصة استثنائية تحكم في متطلباتها ولم يخضع لاملاءاتها فجعلها بذلك ديمقراطية موجهة.
هذا ما سيتم توضيحه بالتفصيل ضمن ثنايا هذه المطالب:

المطلب الأول: خصوصية تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات في الجزائر

طبق المؤسس الدستوري الجزائري مبدأ الفصل بين السلطات بتصوره الخاص حيث اقر وجود ثلاث سلطات تضطلع كل واحدة منها بدور معين وخُولت لها دستوريا صلاحيات تمكنها من تجسيد ذلك الدور كما مُكنت من سلطة بت ومنع في مواجهة بعضها البعض، لكن بالمقابل وزع الصلاحيات بين السلطات ونظم آليات مواجهة كل واحدة منها للأخرى خاصة السلطتين التنفيذية والتشريعية بطريقة مميزة لا تجسد لا فصلا مرنا ولا جامدا بين السلطات وإنما تعكس لا توازن سلطوي بينهما يظهر هيمنة السلطة الأولى عن الثانية.
فمن حيث الاختصاصات الموكلة لكل منهما تستأثر السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية بمجال واسع لممارسة سلطة تنظيمية تنتج بها قواعد قانونية كما تمتد لاختصاص السلطة التشريعية  الأصيل وتمارس جزءا منه عن طريق الأوامر الرئاسية التي تأخذ نفس القوة القانونية للتشريع الصادر عن البرلمان، في حين أن مجال اختصاص السلطة التشريعية محدد النطاق ومحصور في 30 مجالا.
فضلا عن هذا مكنت السلطة التنفيذية بما يكفي من ضمانات لمنع السلطة التشريعية من الامتداد لاختصاصها في حين أن السلطة التشريعية لا تملك آليات تمكنها من ممارسة سلطة بت ومنع فعلية في مواجهة السلطة التنفيذية فعلى الرغم من اعتراف المؤسس الدستوري لها بصلاحية ممارسة رقابة على أعمال الحكومة إلا انه لم يؤمن لها آليات تفعل رقابتها هذه وبالأحرى ربط ممارستها للرقابة على أعمال الحكومة بنتائج تفرغ صلاحيتها هذه من محتواها.
فالبنسبة لاستجواب البرلمان للحكومة أو توجيهه لأسئلة لها جعل الدستور أقصى تبعاته إجراء مناقشة إن رأت إحدى غرفتي البرلمان أن جواب عضو الحكومة يستدعي ذلك دون أن يبين ما ينجر عن تلك المناقشة.
وفي إطار الرقابة دائما اقر المؤسس الدستوري للمجلس الشعبي الوطني صلاحية إقامة المسؤولية السياسية للحكومة عن طريق تصويته على ملتمس الرقابة بأغلبية ثلثي نوابه لكن جعل تبعة ممارسته لهاته الصلاحية نهاية لوجوده فإذا صادق على ملتمس الرقابة يقدم الوزير الأول استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية وباستقالة الحكومة ينحل المجلس الشعبي الوطني وجوبا، وسيلقى نفس المصير أن رفض التصويت بالثقة على بيان السياسة العامة.
فضلا عن هذا يجد البرلمان نفسه مرغما على الموافقة على خطة العمل التي يعرضها عليه الوزير الأول تنفيذا لبرنامج رئيس الجمهورية لأنه برفضه لها سيقدم الوزير الأول استقالة حكومته ويعين رئيس الجمهورية وزيرا أولا آخر وفي حال ما كرر المجلس الشعبي الوطني رفضه لخطة العمل سيحل وجوبا.
وبالتالي كيف ننتظر من البرلمان أن يجرؤ على إقامة مسؤولية السلطة التنفيذية وهو يدرك انه بذلك سينهي وجوده؟
  
المطلب الثاني: طبيعة مساهمة الوظيفة الاستشارية في عقلنة العمل السياسي

تدخل الوظيفة الاستشارية ضمن مرتكزات عملية اتخاذ القرارات، حيث تعمل على ترشيد القرار السياسي، وتحاول تامين جودة القرار الإداري، كما تعكس وحدة جهود جماعية اتفقت على قرار ما مجسدة بذلك مظهر التشاركية، لذلك كانت دعامة من دعائم الديمقراطية.
في الجزائر توجد نماذج عديدة للهيئات والأجهزة الاستشارية يعهد لها تقديم الاستشارة في المسائل التي تندرج ضمن اختصاصها، والمؤسس الدستوري الجزائري هو الآخر لم يغفل إدخال الوظيفة الاستشارية ضمن العمل السياسي لرئيس الجمهورية، حيث تنص المادة171 على انه يؤسس لدى رئيس الجمهورية مجلس إسلامي أعلى، يتولى على الخصوص ما يأتي:
-         الحث على الاجتهاد وترقيته،
-         إبداء الحكم الشرعي فيما يعرض عليه،
-         رفع تقرير دوري عن نشاطه إلى رئيس الجمهورية.
كما نصت المادة 173 على انه يؤسس مجلس أعلى للأمن يرأسه رئيس الجمهورية، مهمته تقديم الآراء إلى رئيس الجمهورية في كل القضايا المتعلقة بالأمن الوطني.
تعكس المادتان السابقتان اعتراف الدستور الجزائري بوجود هامش للوظيفة الاستشارية في عمل رئيس الجمهورية لكن بالمقابل لم يؤمن ضمانات تجعل من الأجهزة الاستشارية تبني العمل السياسي وتضمن فعليا رشادته، إذ حصرها دورها في تقديم المشورة دون أن يلزم رئيس الجمهورية بآرائها، وحتى إن كان لجوء هذا الأخير إليها ضروريا في بعض الأعمال كإعلانه لحالة الطوارئ أو حالة الحصار فانه لا يوجد دستوريا ما يوحي على إلزامية ما تتخذه جهات الاستشارة بالنسبة له.
يمارس مجلس الدولة هو الآخر اختصاصا استشاريا بصفته حام للحقوق والحريات لكن اختصاصه هذا يقتصر على مشاريع قوانين الحكومة ولا يمتد للمراسيم والأوامر الرئاسية، كما أن الرأي الذي يقدمه بخصوص مشاريع القوانين يمكن للحكومة عدم الأخذ به لأنه لا يوجد دستوريا ما يلزمه على ذلك.
هاته النماذج تجعل متتبعها يبحث عن طبيعة مساهمة الوظيفة الاستشارية في عقلنة العمل السياسي في الجزائر، فهل يرى المؤسس الدستوري الوظيفة الاستشارية مجرد إجراء يحظى به بتقبل الشعب انطلاقا من إيهامه بان العمل السياسي رشيد وتشاركي بمروره على أصحاب الاختصاص؟
المطلب الثالث: واقع التفاعل المؤسساتي في الجزائر
تتطلب الديمقراطية وجود تفاعل بين مختلف مؤسسات الدولة على نحو تتجاوب فيه كل واحدة مع الأخرى وتتشارك معا في رسم السياسة العامة للدولة، كما أن العملية السياسية في حد ذاتها هي نتاج تفاعل شامل ومساهمة واسعة من طرف جميع الفواعل السياسية الرسمية منها وغير رسمية.
هذا التفاعل المؤسساتي مفقود في الجزائر فالنظام الجزائري  كرس هيمنة واضحة لمؤسسة رئاسة الجمهورية، انعكست من خلال استئثاره برسم السياسة العامة وانفراده بالسلطة بتمكين دستوري سبق توضيح كيف تم سابقا، نظام عكس ضعف الأداء التشريعي وعجز المجلس الشعبي الوطني عن فرض نفسه في المساهمة في تصميم السياسة العامة وكذا مواجهة السلطة التنفيذية لأنه يفتقد لآليات تؤهله لمساءلتها أو حتى رفض سياستها بل ودعم بغرفة ثانية زادت من ضعفه لان قوتها كانت في الثلث المعين من قبل رئيس الجمهورية، جسد أيضا  هيئات استشارية تبارك القرار السياسي دون أن تشارك في بنائه  فعليا، كما اظهر سلطة قضائية لازال الباحثين يناقشون ضمانات استقلاليتها في ظل استئثار رئيس الجمهورية بتعيين المناصب النوعية فيها ورئاسته للمجلس الأعلى للقضاء الذي يضطلع بتقويم أعمال القضاة ومحاسبتهم.
ديمقراطية موجهة هذا هو النوع الأنسب الذي ينطبق مع ممارسات النظام السياسي الجزائري الذي أعطى لنفسه حق توجيه ممثلي الشعب من أحزاب سياسية ومؤسسات المجتمع المدني مادامت تتغذى من ريعه وفق ما يخدم توجهاته، وافرز سلوكا أحاديا يصعب معه ملامسة تفاعل ناجع بين مؤسسات الدولة منتج لسياسات عامة تشاركية مجدية تحقق طموح الشعب في العيش في ديمقراطية حقيقية.


خاتمة:
من خلال ما سبق ظهرت خصوصية النظام السياسي الجزائري والممارسات التي ذكرت تجعل العقل لا يتقبل تصنيفه كنظام شبه رئاسي مثلما يروج له من أنتجوه، فوجود تطبيق أحادي للسلطة يختبئ وراء تطبيقات شكلية للديمقراطية يجعل النظام السياسي الجزائري نظاما رئاسويا بامتياز تتركز فيه السلطة بيد رئيس الجمهورية بمباركة دستورية.
ومادام الوضع حاليا يشهد الترتيب لإجراء تعديل دستوري بعد مشوار طويل نوعا ما بين السلطة الحاكمة وجموع الطوائف السياسية والكيانات المجتمعية، ينتظر أن يكون الدستور الجديد دستورا يؤسس بحق دولة مدنية يخضع فيها الجميع لسلطة القانون ويكرس ديمقراطية حقة تخلق توازنا بين السلطات وتعكس سياسة عامة تشاركية، كما يؤمل أن يؤمن آليات تفعيل وجود كل مؤسسة يعترف بها ويؤمن أيضا ضمانات تفعيل السلطة التشريعية وصيانة وظيفتها المعيارية، وباختصار ينتظر منه أن يؤسس دولة تستمد قوتها من مؤسساتها تقترن فيها السلطة بالمسؤولية ويفرض فيها منطق المحاسبة والمساءلة نفسه على الجميع.
مواضيع ذات صلة


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات