القائمة الرئيسية

الصفحات

  تطور المسؤولية الجنائية

تطور المسؤولية الجنائية
تطور المسؤولية الجنائية


مما لا شك فيه أن القانون الجنائي يقوم على مجموعة من المبادئ والقواعد الأساسية على رأسها الأركان العامة المتطلبة لقيام أي جريمة إلا أن هذه الأخيرة لا يكفي للعقاب والمؤاخذة عليها توافر هذه الأركان ، وإنما لا بد من قيام عنصر المسؤولية أيضا ومؤدى ذلك تحمل الشخص المسؤول عن الجريمة تبعات تصرفه وعواقب سلوكه[1] .

وعموما فالمسؤولية الجنائية كنظرية متكاملة قطعت عدة أشواط قبل أن تصل إلى ما هي عليه في الوقت الحالي ، إذ أنه قبل الثورة الفرنسية كانت المسؤولية تنسب للإنسان والحيوان على حد السواء عند ارتكاب فعل ضار ، وكانت الأفعال الإجرامية والعقوبة المحددة لها تخضع للسلطة التقديرية للقاضي بحيث كان الشخص إذا أتى فعلا لم يكن مجرما بنص قانوني ورأى القاضي أن ذلك الفعل يستحق العقاب فإنه يعاقب حتما بالعقوبة التي يقررها القاضي ، كما كان فاقد الإدراك وحرية الاختيار يعاقب على ارتكابه الجريمة كما يعاقب من قام بها عن وعي وإرادة ، ولكن بعد الثورة الفرنسية زالت هذه الأفكار وحلت محلها مبادئ جديدة جعلت الإدراك وحرية الاختيار أساسا لقيام المسؤولية الجنائية وأصبح مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات يشكل أساس سياسة التجريم والعقاب .[2]

وتبعا لذلك يتضح لنا أن المسؤولية الجنائية تحظى بأهمية خاصة في إطار القانون الجنائي تكمن في ارتباطها بالنظام العام من جهة وبسلامة المجتمع وحرية الأفراد من جهة أخرى .

وعلى ضوء ما تقدم يصبح التساؤل مشروعا عن الأسس التي أقامت عليها التشريعات المعاصرة المسؤولية الجنائية ؟

للإحاطة بجوانب هذه الإشكالية سنقسم الموضوع إلى مبحثين ، بحيث سنخصص (المبحث الأول) لأحكام المسؤولية الجنائية ، على أن نفرد (المبحث الثاني) للمسؤولية الجنائية في ظل التشريعات المعاصرة .

المبحث الأول : أحكام المسؤولية الجنائية

لاشك أن أول ما يستوقف أي باحث قانوني بالنسبة لأي مؤسسة قانونية هو بيان أحكامها العامة وخاصة ما يتعلق بمفهومها وتمييزها عن ما يشابهها أو يختلط معها أو ماهيتها بشكل عام ، وبناء على ذلك سنحاول في هذا المبحث الوقوف عند ماهية المسؤولية الجنائية وكذا بيان أساسها .

المطلب الأول : ماهية المسؤولية الجنائية

في إطار هذا المطلب سنقف باختصار على مفهوم المسؤولية الجنائية في (الفقرة الأولى) وعلى تمييزها عن بعض المفاهيم المشابهة لها في (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى : مفهوم المسؤولية الجنائية

بداية يتعين الإشارة وفي حدود ما اطلعنا عليه أنه لم يرد أي تعريف للمسؤولية الجنائية لا تشريعا ولا قضاء ، وإنما تقتصر التشريعات على بيان الأركان التي تقوم عليها المسؤولية الجنائية وما يرد عليها من عوارض مختلفة [3]، وهو ما سار عليه المشرع المغربي أيضا ، إلا أن هذا لم يقف حائلا أمام الفقه الذي بدل مجهودات كبيرة ومتواصلة لوضع تعريف للمسؤولية الجنائية بحيث تعددت التعاريف إلى درجة التطابق.


ويمكن القول أنها توزعت إلى زمرتين الأولى تربط وبكيفية جدلية بين المسؤولية الجنائية والجزاء أما الثانية فتعتبرها خلاف ذلك .

ومحصلة الرأي الأول وغيره من الآراء التي تصب في ذات الاتجاه أن المسؤولية الجنائية مرتبطة بالعقوبة أو الجزاء عموما ، على اعتبار أن هذا الأخير هو الجزء المحقق منها وبدونه تفقد معناها من الناحية النظرية كما أنها لا يبقى لها وجود من الناحية العملية [4].

لكن لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن القول بتطابق مفهوم المسؤولية الجنائية مع مفهوم الجزاء محل نظر لأن تلازم العقاب و المسؤولية الجنائية في أكثر الأحكام التي تصدرها المحاكم الجنائية لا يعني بالضرورة تطابقهما ، ولا أدل على ذلك من الحالات التي لا ترتب فيها المحكمة أي جزاء بالرغم من قيام المسؤولية الجنائية وهذا هو موقف الاتجاه الثاني[5].

وبعد عرض هذه الاتجاهات الفقهية المتعلقة بمفهوم المسؤولية الجنائية ولو بشكل موجز يثور التساؤل عن التوجه الذي اعتنقه المشرع المغربي وسار على هديه ؟

باستقراء مقتضيات مجموعة القانون الجنائي يتضح لنا أن المشرع المغربي خالف الرأي الفقهي الأول وساير الثاني ، وذلك إما صراحة كما فعل في الفصل 143 من نفس المجموعة المتعلق بالأعذار القانونية المعفية كليا أو جزئيا من العقاب عندما قال أن الأعذار القانونية هي حالات محددة في القانون على سبيل الحصر يترتب عليها مع ثبوت الجريمة وقيام المسؤولية الجنائية تمتيع المجرم بعدم العقاب إذا كانت معفية ، أو ضمنا لما خص المسؤولية الجنائية بالفصول من 132 إلى 140 من ق ج ، بينما أفرد للنظرية العامة للعقوبات الفصول من 14 إلى 60 من نفس القانون[6].

الفقرة الثانية : تمييز لمسؤولية الجنائية عن بعض المفاهيم المشابهة

أ- المسؤولية الجنائية والإسناد المعنوي : يعرف الإسناد المعنوي لدى غالبية الشراح أنه رابطة إرادية بين الجاني والجريمة وهذه الأخيرة لا تنسب إلى الجاني إلا أذا توافرت لديه القدرة على الفهم والتمييز من جهة والقدرة على الاختيار من جهة أخرى ، والإسناد بهذا المعنى يعتبر شرط لقيام المسؤولية الجنائية إذ لا يمكن القول بمسؤولية جنائية اتجاه شخص ليست بينه وبين الواقعة المرتكبة أية علاقة مادية أو معنوية وعلى ذلك فالإسناد بصورتيه يشكل عنصرا مفترضا لقيام المسؤولية الجنائية [7].

ب- المسؤولية الجنائية والإثم الجنائي : عادة يوجد رباط بين الركن المعنوي للجريمة والمسؤولية الجنائية فيوصف الأول بأنه ركن للثانية وتوصف بعض الحالات التي ينتفي فيها بأنها موانع للمسؤولية الجنائية ، لكن بعض الفقه أقام ضابط التفرقة بينهما من زاوية ماهية كل منهما ، ذلك أن الإثم الجنائي يدخل في أركان الجريمة [8]، أما المسؤولية الجنائية فهي الأثر المترتب على توافر أركان الجريمة وإسنادها ماديا ومعنويا لشخص الفاعل[9] .

ج- المسؤولية الجنائية وأسباب الإباحة أو التبرير : في البداية يمكن القول أن أسباب التبرير هي رخص قانونية تبيح أو تبرر لمن توافرت لديه أن يرتكب فعلا أو تركا جرمه المشرع الجنائي في نص من النصوص، وتبعا لذلك يتبين أن أسباب التبرير من حيث الأثر تنصرف إلى الفعل أو الامتناع فترفع عنه وصفه الإجرامي ولا تنصرف إلى الفاعل ، وهذا معناه أن ثبوت قيام أحد أسباب التبرير لا يمكن معه القول بقيام الجريمة مع عدم مساءلة الفاعل لها ، وإنما يؤدي هذا الثبوت إلى تقرير عدم وجود أي جريمة أصلا بحيث أن الذي ارتكب النشاط المجرم وهو خاضع لأحد هذه الأسباب وكذلك من ساهم أو شارك معه فيه يستفيد منه جنائيا وكذا مدنيا بحيث لا يساءل جنائيا ويبرأ لانعدام الخطأ الجنائي في جانبه كما لا يساءل من الناحية المدنية ، هذا خلافا لموانع المسؤولية الجنائية التي تتعلق في إطار التشريع الجنائي المغربي بالإدراك والتمييز وبالتالي فقيامها لا يبيح الفعل المجرم ، وإنما فقط تمنع مساءلة الشخص جنائيا أما إمكانية مساءلته مدنيا فتظل قائمة كما أن طبيعتها الشخصية تؤدي إلى مساءلة الشركاء والمساهمين في الفعل ما لم يكونوا هم أيضا أتوا الفعل عن إرادة معيبة [10].

ح- المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية : بداية يجب الإشارة أن القوانين القديمة لم تكن تفصل بين هاتين المسؤوليتين وبعد مراحل طويلة وصلت القوانين الحديثة إلى التمييز بينهما حيث باتت كل منهما تخضع لنظام قانوني مختلف عن الأخرى من حيث الموضوع والشكل ، ومن أهم الفوارق بينهما أن العمل أو الامتناع الذي تترتب عنه المسؤولية الجنائية يلحق الضرر بالمجتمع كله ومن تم فالجزاء المقرر لردعه أساسا يتمثل في العقوبة الجنائية في حين أن العمل أو الامتناع الذي تترتب عنه المسؤولية المدنية لا ينجم عنه سوى ضرر خاص والقاعدة أن الجزاء يتمثل في الغالب في التعويض الذي يفرض على المسؤول والذي يلحق أمواله دون أن يتعد الأمر حد تقييد حريته أو القضاء على حياته ، كما أنه عند ثبوت العمل أو الامتناع الذي تترتب عنه المسؤولية الجنائية فإن النيابة العامة هي وحدها المخول لها قانونا المطالبة بتوقيع الجزاء الجنائي ، أما العمل أو الامتناع الذي تترتب عنه المسؤولية المدنية فإن المضرور هو من يعود له الحق في رفع دعوى قضائية للمطالبة بالتعويض عما أصابه من ضرر[11] .

د- المسؤولية الجنائية والمسؤولية التأديبية : إن المشرع الجنائي اعتبر الجريمة التي تتولد عنها المسؤولية الجنائية تشكل إخلالا خطيرا بأمن وسلامة المجتمع وبكيفية مباشرة وهذا خلافا للجريمة التأديبية التي تتولد عنها المسؤولية التأديبية التي وإن كانت تؤدي بدورها إلى الإضرار بالمجتمع إلا أن مدى هذا الإضرار جد محدود ، ومن أهم الفوارق بينهما أن تقرير المسؤولية الجنائية لا يكون إلا من طرف القضاء لخطورته البالغة أما الجرائم التأديبية فيرجع النظر فيها إلى هيئات غير قضائية منحها المشرع حق تتبع سلوك طائفة معينة من الطوائف المهنية وتأديبها عند ما يخل أحد أفراد هذه الطائفة بواجباته المهنية [12].

المطلب الثاني: أساس المسؤولية الجنائية

تشكل المسؤولية الجنائية الدعامة الأساسية التي يقوم عليها حق تقرير الجزاء الجنائي، والإشكال الذي يطرح نفسه بشدة في هذا الشأن هو أساس المسؤولية الجنائية وتطوره، فما القصد من الإضافة في قولنا أن الشخص مسؤول عن أفعاله، هل الإسناد المادي فقط أم لابد من ارتكاب الفعل الجرمي عن وعي واختيار؟ إن الأسئلة المطروحة وعلى الرغم مما يوحيه ظاهرها من بساطة، ظلت مثار خلاف شديد عبر الزمن، فكثرت حولها النظريات واشتد بينها الجدل والخلاف، وقد أثمر هذا السجال عن اتجاهات متباينة ومتعددة سنقف عندها في هذا المطلب، من خلال تأصيل أساس المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية  ( الفقرة الأولى)، ثم الانتقال إلى المذاهب  الفقهية الحديثة ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: أساس المسؤولية الجنائية في الشريعة الإسلامية:

بالرجوع إلى النص القرآني  نجذ أن نظرية المسؤولية معروضة بإحكام في آياته، فقد أثبت القرآن الكريم حرية الإنسان وحمله المسؤولية عن أعماله متى كان مدركا مختارا، فالشريعة لا تعرف محل للمسؤولية إلا للإنسان الحي المكلف، فإذا مات أو زال عنه الإدراك والاختيار سقطت عنه التكاليف ولم يعد محل للمسؤولية .

·       الصبي/ المكلف

·       المكره

·       شخصية المسؤولية الجنائية.

والشريعة تعفي الأطفال إلا إذا بلغوا الحلم مما لا يعفي منه البالغون، لقوله تعالى "وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن اللذين من قبلهم" (سورة النور الآية 59).

ولقول الرسول عليه الصلاة والسلام " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يصحو، وعن المجنون حتى يفيق".

والشريعة لا تؤاخذ المكره ولا فاقد الإدراك، لقوله تعالى " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" (سورة النحل الآية 106)، وقوله تعالى " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" ( سورة البقرة الآية 173). ثم قول الرسول عليه الصلاة والسلام : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا "

ومن القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية: "ألا تزر وازرة وزر أخرى"، وأن" ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم: 38/39) فلا يسأل الإنسان إلا عن جنايته، ولا يؤخذ بجناية  غيره مهما كانت صلته به، بالإضافة إلى أن كل ما لم يحرم فهو مرخص به ولا عقاب على إتيانه، فإذا حرم فالعقوبة من وقت العلم بالتحريم، أما قبل ذلك فيدخل في قوله تعالى : " عفا الله عما سلف" (المائدة الآية 95).

وبذلك يتبين أن الشريعة الإسلامية قد جعلت من الإدراك والاختيار أساسا للمسؤولية الجنائية فلا يتم إيقاع العقوبة إلا على من كان مدركا مختارا من المكلفين، فإذا لم يكن المكلف مدركا ومختارا فلا مسؤولية عليه وبالتالي لا جزاء، ويعلل الفقهاء اشتراط الإدراك والاختيار لاستحقاق العقاب بأن الله تعالى خلق العباد وخلق الموت والحياة، ليبلو عباده ويختبرهم أيهم أحسن عملا، وأنه هيأ لهم أسباب الابتلاء في أنفسهم وفي خارج أنفسهم، وأرشدهم إلى التفكير والتدبر وإيثار ما تقتضي به عقولهم، فإن سمعوا وأطاعوا لم يضرهم ذلك شيئا، وإن عصوا فقد حقت عليهم العقوبة بعصيانهم وعدوانهم، ولا عذر لهم بعد أن عملوا بما حرم عليهم وما ينتظرهم من عقاب، وبعد أن أتوا ما أتوا وهم مختارين مدركين.[13]

وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول بأن المسؤولية الجنائية في الشريعة تقوم على ثلاثة أسس:

أولها: أن يأتي الإنسان فعل محرما

ثانيها: أن يكون الفاعل مختارا

ثالثها: أن يكون الفاعل مدركا.

فإذا وجدت هذه الأسس الثلاث وجدت المسؤولية الجنائية، وإذا انعدم أحدها، انعدمت.

الفقرة الثانية: أساس المسؤولية الجنائية في المدارس الفقهية الحديثة:

لقد تعرض الفقه الجنائي إلى دراسة أساس المسؤولية الجنائية من خلال موقفين : الأول يرفعها إلى فعل خطر حيث الإرادة معدومة أو مكبلة، والثاني يقيمها على إرادة آثمة[14]، غير أنه بالتعمق في دراسة أساس المسؤولية الجنائية عند كلا الموقفين يتبين أنه لا يخرج عن إطار المسؤولية الأدبية (أولا) أو المسؤولية الاجتماعية (ثانيا).

أولا: المسؤولية الأدبية

المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية هي اتجاه سائد في الفقه يقيم المسؤولية على الإرادة،  فتصبح المسؤولية الجنائية وثيقة  الصلة بالأخلاق، وذلك أن الفعل المجرم ينطوي دائما على معنى الإثم أو الإذناب، والمسؤولية الأدبية تعني أن الإنسان خالق أفعاله، والمسؤولية بهذا المعنى تعني انتساب الفعل إلى الفاعل من حيث هو صاحب القرار ومالك القدرة على الفعل أو ضده، وهذه الحقيقة تشهد عليها جل التشريعات الجنائية الحالية، وقد كان القرن العشرين هو نقطة التحول في مسار أساس المسؤولية منذ سنواته الأولى إذ تم تجاوز أزمة الحتمية وتم كشف خطئه  كقانون علمي يحكم الأشخاص والأحداث والأشياء، وفي هذا الإطار أعلن "ادينجتون" أن التقدم العلمي يجعل الدفاع عن مبدأ الحتمية المطلق أمرا مستحيلا[15].

والأخلاق والمسؤولية – في المفهوم الفلسفي- يرتبطان معا بصلة الوجود والعدم فلا أخلاق بلا مسؤولية، ولا مسؤولية بلا أخلاق، أي أن الإنسان هو المتحكم في تصرفاته وهو حر في ذلك، وحرية الإرادة أو الحرية النفسية هي قدرة الإنسان أن يختار فعلا أو سلوكا من بين أفعال وسلوكات كثيرة متساوية من حيث الإمكان، والحرية هي الشرط الأول لكل فعل أخلاقي أو لكل فعل إنساني للمسؤول، وهذه الفكرة كما سبقت الإشارة قد لاقت الرفض من لدن أنصار مبدأ الحتمية  والجبرية باعتبار الإنسان مجبور على فعل الجريمة وأنها قدر محتوم عليه، مع العلم أن حرية الإرادة كمفهوم فهو عريق في الفكر الفلسفي وهذا الموضوع ليس بالأمر الهين اليسير، فهي موضوع الإنسان في كل عصر وأرض، وليست هناك مجتمعات لم تعرف المشكلة فحرية الإرادة لها انعكاس على حياتنا العملية تشريعا وممارسة، والتي تقوم على افتراض الإنسان حرا غير مجبر، بل إن ما يسود حياتنا من قوانين وضعية  وإلاهية أيضا إنما تقوم على هذا الأساس، وإلا فليس ثمة ما يبرر مسؤولية الأفراد عن أفعالهم أمام هذه القوانين، فالمسؤولية  لا معنى  لها إذا كان الإنسان غير حر في أفعاله[16].

وهكذا اهتز الأساس الفلسفي للمسؤولية الاجتماعية وبقيت روح الإنسان على ما هي عليه منذ أقدم العصور ترفض أن يكون الإنسان ريشة في مهب الريح، أو أنه مجرد مسمار صغير مغلوب على أمره داخل آلة ضخمة هي العالم كما اعتبر في عصر نيوتن.

وعموما فهناك مدرستان جنائيتان اثنتان في المسؤولية الأدبية وهما:

1-  المدرسة التقليدية :

والتي أسسها الفقيه الإيطالي بكاريا BECCARIA  ومن أهم روادها الانجليزي  بنتهام BENTHAM، وفوربراخ الألماني FOERBRACK، وقد ظهرت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، من بين أهم المبادئ التي نادت بها هذه المدرسة حول أساس المسؤولية الجنائية هو الإيمان بمبدأ حرية الإنسان  المطلقة في كل تصرفاته، شريطة أن يكون كامل الإدراك و التمييز، فهو الذي يختار بكامل الحرية بين الخير والشر، وإذا ما ارتكب السلوك الجرمي فمن المفروض أن يعتبر بأنه قد اختاره عن طواعية واختيار بقصد إشباع نزواته الشريرة لا غير ويكون اختياره مشكلا لخطأ[17]، ويجب توقيع العقاب عليه لأنه وجه إرادته على خلاف الوجهة التي يتطلبها القانون، في حين أنه كان  في استطاعته ومن واجبه أن يوجهها على خلاف ذلك[18]، ولا محل لتوافر الإرادة الحرة في الفرد إلا إذا اكتملت ملكاته الذهنية والنفسية بما يكفل له التمييز بين الخير والشر[19]، وانعدام الحرية في الاختيار لإكراه مادي أو لجنون أو لانعدام التمييز يعفي عن المسؤولية الجنائية، وبالتالي فالشخص مسؤول من الناحية الأخلاقية فقط.[20] 

إذن فالمدرسة التقليدية لا تكتفي بنسبة الفعل ماديا إلى الفرد، وإنما تشترط زيادة على ذلك أن يكون متمتعا بالتمييز وحرية الاختيار وهو ما يعبر عنه بالإسناد المعنوي، وتبنى المسؤولية عند هذه المدرسة على أساس الخطأ، كما تعتبر أن هذه الحرية واحدة بالنسبة لجميع الأشخاص والمسؤولية متساوية بينهم، ويجب أن ينالوا عقابا واحدا دون استثناء ودون مراعاة درجة الإرادة لدى مرتكب الجرم رغم اختلاف الظروف والمسببات ودرجة إرادة الأشخاص من واحد لآخر حيال نفس الواقعة الإجرامية.

2-  المدرسة التقليدية الحديثة أو التوفيقية:

هذه المدرسة بدورها كسابقتها المدرسة التقليدية الأولى اعتدت بحرية الاختيار والإرادة الواجب توافرها  لدى الشخص لمساءلته عن أفعاله الإجرامية، إلى جانب إقرارها أيضا أن الإنسان حر في أفعاله واختياراته، وبأن حرية الاختيار هي أساس المسؤولية الجنائية، غير أنها تنفي فكرة أن الحرية متساوية عند جميع الأفراد كما تقول بذلك المدرسة التقليدية الأولى، لأن اختلاف ظروف مرتكب الجريمة بلا جدال لابد وأن يكون لها آثار على حرية الاختيار عند الجاني، والحرية والاختيار تتفاوت بحسب تلك الظروف والملابسات مما يلح أن تكون العقوبة متناسبة مع تغيرات هذه الحرية أو الإرادة، وبتعبير آخر أن تراعى درجة المسؤولية الجنائية لدى المجرم.

وقد روجت هذه المدرسة لفكرة المسؤولية المخففة مع الإبقاء على فكرة  امتناع المسؤولية الجنائية في كل الأحوال التي تنتفي فيها حرية الاختيار لدى الفاعل، ومما يلاحظ أن المدرسة التقليدية الحديثة أو التوفيقية أضافت فكرة العدالة في توقيع الجزاء بحسب درجة الإرادة والاختيار، والتي ليست سوى المقاومة التي يبديها الشخص للتغلب على دوافع الشر في نفسه، ولابد وأن تتفاوت من شخص لآخر، بل وفي الشخص الواحد تتفاوت من لحظة لأخرى.[21]

ثانيا: المسؤولية الاجتماعية

تبني هذه المدارس موقفها من أساس المسؤولية الجنائية حول أن هذه الأخيرة ضرورة اجتماعية لابد منها لمواجهة خطورة الفعل والفاعل، وهي اتجاهات تؤمن بحتمية السلوك الإجرامي وخطورته دون الالتفات إلى فكرة الخطأ والمسؤولية الاجتماعية تستبعد الفكرة الأخلاقية أو فلسفة القيم من مجال التجريم والعقاب وتبحث عن أسباب للجريمة بعيدة عن إرادة الجاني.

ويعتبر المبدأ الحتمي هو السند العلمي للمدارس الوضعية في العلم الجنائي ومسألة الحتمية هي شرط لكل معرفة ممكنة كما يقول "إميل برييه"،[22] ولقد كان علماء القرن التاسع عشر يعتقدون أن جميع الظواهر واضحة أو خفية تخضع لمبدأ الحتمية المطلقة، وكانوا يفسرونها تفسيرا حركيا بحثا دون أن يفسحوا المجال للصدفة أو للاحتمال أو للاختيار، وذلك ما انتهى إليه " لابلاس" بأننا ينبغي أن ننظر إلى حالة الكون الحاضرة على أنها نتيجة لحالة متقدمة سبقتها وعلى أنها سبب لحالة قادمة تتلوها، أي أن كل شيء يمكن التنبؤ به إذا توافرت معطيات معينة.[23]

كما ظهرت لدى هذه المدرسة مسألة الجبرية  أيضا التي تنسب الفعل إلى وجود أعلى، والجبريون يرون أن الحوادث محددة أو مكتوبة سلفا من حيث وقت حدوثها ومكانها وطريق وقوعها، إذن فالحتميون يرون أن كل فعل إنساني يخضع خضوعا حتميا لأحداث معينة إذن يعني علاقة شرطية بين السبب والمسبب، وبذلك فهم يعتبرون الأمر ضروري لا يمكن تجاوزه أو تفاديه استنادا إلى قوة أعلى تسيطر على سلوك الناس.[24]

وعموما فهناك مدرستان جنائيتان اثنتان في المسؤولية الاجتماعية وهما:

1-  المدرسة الوضعية أو الواقعية :

والتي أسسها الطبيب الإيطالي لامبروزو LAMBROZO (1836-1909) ومن بين أقطابها انريكو فيري A.FERRI  (1929- 1856) وكاروفالو GAROVALO وتنعت طريقة أتباع هذه المدرسة بالواقعية، ومن بين الأفكار البارزة لهذه المدرسة في مجال المسؤولية الجنائية هو إنكارها  لصلاحية حرية الاختيار عند الفرد كأساس للمسؤولية الجنائية أخذا منها بمبدأ الجبرية أو الحتمية المطلقة، وهذه الفكرة الأخيرة تجعل منها مدرسة تختلف تمام الاختلاف عن المدرستين التقليديتين الأولى والثانية كما سوف نتطرق إليه في حينه، ذلك أنه إذا كانت الأخيرتان تجعلان من حرية الاختيار مطلقة كانت أم نسبية أساسا للمسؤولية الجنائية ، فإن المدرسة الوضعية أنكرت مبدأ حرية الاختيار بين الخير والشر كأساس للمسؤولية، واعتبرت أن أي جريمة وقعت فوقوعها كان حتميا، وأن الإدراك والإرادة مجرد خيال لا أساس له في الواقع، وعندما يرتكب الشخص فعلا مضرا بالمجتمع فإنه يسأل مسؤولية اجتماعية[25]، ومن واجب المجتمع الدفاع عن نفسه حيال هذا السلوك للحفاظ على دوامه واستقراره عن طريق وضع الجاني في حالة لا يستطيع فيها الإضرار بالمجتمع، ووسيلته في ذلك هي التدابير الوقائية، على أن يكون المعيار هو مراعاة درجة خطورة الجاني على المجتمع وليست درجة مسؤوليته، كما أباحت هذه المدرسة اتخاذ هذه التدابير الاحترازية ضد كل شخص يتوقى المجتمع منه الخطر المحتمل الذي قد يصدر عنه، ولو لم يقدم على ارتكاب الجريمة،[26] أي مواجهة الخطر الواقع وأيضا الخطر المحتمل، وذلك ما يشكل إهدار للحقوق الفردية ولاسيما عند اتخاذ تلك التدابير ضد الفرد حتى ولو لم يرتكب الجريمة بعد.[27]

2-  مدرسة الدفاع الاجتماعي:

التي ظهرت بعد أن سادت أفكار الإتحاد الدولي  للقانون الجنائي القائمة بين مختلف الاتجاهات الفكرية  السائدة، ومدر ذلك عدم تقيد أنصار هذا المذهب ابتداء بأي اتجاه فكري معين، إذ أنه وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قام الإيطالي جراماتيكا GRAMATICA  بتأسيس مركز لدراسة الدفاع الاجتماعي كان مقره في جنوة بإيطاليا، وهي حركة تهتم بالأساس بأسباب الجريمة والعوامل التي تؤدي إلى ظهورها –خارج مجال حرية الاختيار مبدئيا- وهي في ذلك مثل المدرسة الوضعية، وينفي جراماتيكا أي رابطة أو صلة بين مبدأي الجبرية وحرية الاختيار وبين الظاهرة الإجرامية، وإنما يربط هذه الأخيرة بمختلفة العناصر الاجتماعية والواقعية، والسلوك الإجرامي ليس سوى انعكاس لحالة الجاني النفسية التي تعمل بكيفية معاكسة ومناهضة لنظم المجتمع نتيجة توافر عوامل كامنة في المجتمع نفسه هي التي فرضت عليه طريق الإجرام.

وحسب رأي  هؤلاء الفقهاء فيجب القضاء على الخلل الاجتماعي ابتداء للقضاء على الظاهرة الإجرامية انتهاء، وهذه الغاية لن تتأتى إلا عبر إصلاح اجتماعي عميق لجميع مناحي الحياة العامة وسيما الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، كما ينتهي جراماتيكا إلى أن المناهضين للمجتمع المجرمون هم في حقيقة  الأمر ضحايا هذا المجتمع الذي دفع بهم إلى طريق الجريمة، ومن ثم فلا يمكن القول بمسائلتهم جنائيا ولا بعقابهم تبعا لذلك لأنهم غير مذنبين، ولا يمكن أن ينسب إليهم الخطأ، ويرى أنه من الأفيد دفاع المجتمع عن استقراره وأمنه عبر اتخاذ تدابير وقائية احترازية ضد هؤلاء المجرمين المناهضين لنظمه وقوانينه بدل العقوبة التقليدية، ويضيف رواد الدفاع الاجتماعي الكلاسيكي أن العقوبة المؤسسة على الخطأ لا تتناسب بتاتا مع تأمين تقويم وإعادة إدماج الجانح ولا حماية المجتمع على السواء، ويمكن القول أن هذه المدرسة تهدف إلى حماية المجتمع والمجرم معا من الظاهرة الإجرامية بخلاف المدارس التقليدية التي حصرت ذلك في حماية المجتمع من المجرم فقط.

هكذا  وبعد أن عرضنا للتأصيل التاريخي لأساس المسؤولية الجنائية عبر الزمن ووقفنا عند مختلف المواقف المثارة بشأنه بداية بالشريعة وانتهاء بالمذاهب الفقهية الحديثة، فإن السؤال الذي يطرح أمامنا الآن هو: ما موقف التشريع المغربي والتشريعات المقرنة من فكرة أساس المسؤولية الجنائية؟

المبحث الثاني: موقف التشريعات المعاصرة من المسؤولية الجنائية

إذا كانت المذاهب والمدارس الفقهية قد اختلفت في تحديدها لأساس المسؤولية الجنائية اختلافا شديدا إلى درجة التنافر أحيانا، فأنه لا شك أن التشريعات المعاصرة قد استفادت كثيرا من هذا الخلاف، غير أن السؤال المطروح هو هل توحدت في تصورها للمسؤولية الجنائية أم ثار خلاف بينها بشأنه؟ ذلك ما سنحاول الوقوف عليه من خلال دراستنا لأساس المسؤولية الجنائية في التشريعات المقارنة (المطلب الأول)، قبل أن نعرض لأساسها في ظل التشريع المغربي( المطلب الثاني).

المطلب الأول: التشريعات المقارنة

أثار الأساس الذي تقوم عليه المسؤولية الجنائية جدلا كبيرا بين رجال الفقه الجنائي وكان اختلافهم في هذا الصدد يرجع إلى أن الإنسان عند ارتكابه جريمة ما هل هو مخير أم مسير؟

وكما سبق وتمت الإشارة إليه فإن الفقه انقسم فيه اتجاهين الأول مثلته المدرسة الوضعية بتأكيدها على أن أساس المسؤولية الجنائية هو مجموع الظروف المحيطة بالإنسان سواء الداخلية أو الخارجية، في حين ذهبت المدرسة التقليدية للقول بأن أساس المسؤولية الجنائية هو التمييز والإدراك وحرية الاختيار، قبل أن يأتي اتجاه ثالث يوفق بين المدرستين بتنصيصه على أن أساس المسؤولية الجنائية هو الإرادة وحرية الاختيار شريطة أن تكون مقيدة في حدود معقولة ووفقا للظروف.

وأمام هذه الآراء المتعارضة حول أساس المسؤولية الجنائية، عملت مختف التشريعات الجنائية المعاصرة على الأخذ بالرأي القائل بضرورة توافر الإرادة والإدراك وحرية الاختيار بقدر معقول كأساس للمسؤولية الجنائية، وهو ما يلاحظ سواء بالنسبة للتشريعات العربية (الفقرة الأولى)، أو في ما يخص التشريعات الغربية( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: التشريع العربي

نجذ أن المشرع الكويتي وعملا على تكريس الرأي المذكور، فقد بنى المسؤولية الجنائية على الإدراك وحرية الاختيار وهو ما يستفاد من مفهوم المخالفة للمادة 22 من قانون العقوبات التي تنص على أنه " لا يسأله جزائيا من يكون وقت ارتكاب الفعل عاجزا عن إدراك طبيعته أو صفته غير المشروعية أو عاجزا عن توجيه إرادته بسبب مرض عقلي أو نقص في نموه الذهني أو أية حالة عقلية أخرى غير طبيعية".

وهو الشيء نفسه الذي ذهب إليه المشرع الجنائي اللبناني  في مادته 210 التي تنص على أنه" لا يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وعن إرادة"، فيما نصت المادة  231 من ذات القانون على أنه " يعفى من العقاب من كان في حالة جنون أفقده الوعي والإرادة"، وعلى هذا الأساس ذهب المشرع اللبناني إلى التأكيد على أن قصور الملكات العقلية بسبب صغر السن أو فقدان العقل يعتبر مانعا من موانع قيام المسؤولية الجنائية على عاتق مرتكب الفعل الجرمي.

كما اعترف المشرع المصري هو الآخر بحرية الاختيار وأقام المسؤولية الجنائية على هذا الأساس واستبعد المسؤولية الجنائية في الحالات التي تنتفي فيها حرية الاختيار والإدراك، وذلك بصريح المادة 62 من قانون العقوبات التي تنص على أنه " لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وقت ارتكاب الفعل، إما لجنون أو عاهة العقل وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه أو على علم منه بها" وبالتالي فإن انتفاء حرية الاختيار تؤدي إلى امتناع المسؤولية الجنائية لتخلف الأساس الذي تقوم عليه.

الفقرة الثانية: التشريع الغربي

في هذا الإطار نجذ أن المشرع الإيطالي نص في المادة 85 من قانون العقوبات الإيطالية على أنه " لا عقاب على من ارتكب فعلا يعده القانون جريمة إذا لم يكن وقت ارتكابها أهلا للتكليف ولا يكون كذلك إلا إذا توافرت لديه القدرة على الإدراك والاختيار"، وبهذا اقر المشرع الإيطالي شرطي الإدراك وحرية الاختيار كشرطين لازمين للمساءلة الجنائية، وهو نفس الأمر الذي أقره المشرع السويسري في المادة العاشرة من قانون العقوبات والتي نصت على أنه " لا عقاب على الشخص  الذي يكون مصابا بمرض عقلي أو ضعف في العقل، أو باضطراب خطير في الوعي وقت ارتكاب الفعل، بحيث لا يملك معه القدرة على تقدير الصفة غير المشروعة  لفعله أو تحديده تبعا لذلك التقدير".

والواضح من النصوص المذكورة أن غالبية التشريعات الجنائية الحديثة قد تأثرت بالفكر التقليدي في المسؤولية الذي ظهر في القرن الثامن عشر بزعامة بيكاريا ومونتيسكيو وفولتير، بحيث اتجهت هذه التشريعات عند النص على أحكام الأهلية الجنائية، إلى جعل الإرادة والإدراك أساسا لقيام الجريمة والمسؤولية الجنائية عنها، إما بصورة صريحة كما هو الحال بالنسبة للتشريع الإيطالي أو ضمنيا بالنسبة للتشريعات الأخرى كقانون العقوبات الفرنسي والسويسري والمصري واللبناني، لكن الملاحظ أن بعض التشريعات ومنها القانونين الألماني والسويسري يذهبان إلى مسؤولية المجنون جنائيا ومدنيا إذا كان الفعل الذي أتاه من الأفعال التي يعاقب فيها على الإهمال أو عدم التبصر، كأن يكون جنونه ناشئا عن عادات سيئة كتعاطي المسكرات أو ناشئا عن فساد الأخلاق،  وذلك لأنه يوجد في هذه الحالة خطأ أصلي يصح أن ينسب إلى الفاعل ويكفي لتبرير مسؤوليته.

المطلب الثاني: التشريع المغربي

باستقراء المقتضيات القانونية الواردة في مجموعة القانون الجنائي المتعلقة بالمسؤولية الجنائية يتبين أن المشرع المغربي على غرار مختلف التشريعات المعاصرة ذهب إلى الأخذ بالإرادة والإدراك كأساس للمسؤولية الجنائية [28]، وهو ما يتضح بشكل بارز من كل من الفصل 132 من ق ج الذي اعتبر فيه كل شخص سليم العقل قادر على التمييز مسؤول عن الجرائم التي يرتكبها بحيث لا يستثني من هذا المبدأ إلا الحالات التي ينص فيها القانون صراحة على خلاف ذلك ، والفصل 134 من نفس القانون الذي أقر فيه المشرع بعدم مسؤولية كل من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه في حالة يستحيل عليه معها الإدراك والإرادة نتيجة خلل في قواه العقلية مع وجوب الحكم بإعفائه ، وكذا الفصل 138 ق ج الذي اعتبر فيه الصغير الذي لم يبلغ 12 سنة غير مسؤول جنائيا لانعدام تمييزه .

وهذا التوجه هو الذي سار عليه أيضا القضاء المغربي وهو ما يتضح من خلال عدة قرارات لمحكمة النقض من بينها قرار لها لسنة 1983 الذي اعتبرت فيه -المجلس الأعلى سابقا- محكمة النقض حاليا القاصر عديم التمييز وألحقت به فاقد العقل بالنسبة للأفعال الحاصلة منه في حالة جنونه لا يسأل عن الضرر الذي تسبب فيه وأن المحكمة لما أعفت المتهم من المسؤولية الجنائية لكونه كان وقت اقتراف الفعل المتابع من أجله فاقد العقل وقضت عليه مع ذلك بأداء التعويض للمطالب بالحق المدني لم تجعل لما قضت به أساسا صحيحا من القانون وخرقت الفصل 96 من قانون الالتزامات والعقود وعرضت قرارها للنقض [29].

كما أكدت في قرار أخر لها أن محكمة الموضوع تكون ملزمة بالرد على الدفع الموضوعي المتعلق بإجراء خبرة عقلية ردا كافيا وسائغا وإلا اعتبر ذلك نقصا في التعليل غلى اعتبار أن المجال الطبي البحث لا يتأتى الجزم فيه إلا لذوي الدراية من الأطباء المختصين في ميدان الطب العقلي والنفسي لارتباط الموضوع بالمسؤولية الجنائية .

إذن فمن كل ما سبق يتبين أن أساس المسؤولية الجنائية في التشريع المغربي هو الإدراك والإرادة متى تحقق شرطاها المتمثلان في التمييز وحرية الاختيار ، ويترتب عن ذلك أنه إذا كان التمييز وحرية الاختيار ضروريين لقيام المسؤولية الجنائية فإنه لا يشترط توجه الإرادة قصد ارتكاب الجريمة ، بل يكفي أن يكون الجاني متمتعا فعلا بالتمييز والقدرة على الاختيار بحيث إذا لم يستعمل هاتين الملكتين لتجنب الجريمة يكون مسؤولا وهذا هو أساس المسؤولية الجنائية في الجرائم غير العمدية إذ أن الذي يرتكب جريمة قتل نتيجة حادثة سير لا يوجه إرادته إلى القتل وإنما يعطل قدرته على تجنب هذا الحادث بالإهمال أو عدم الاحتياط .

خاتمة:

من خلال ما سبق نخلص إلى أن المسؤولية الجنائية لم تكن مجهولة في القوانين القديمة وإنما كانت تحدد على نحو مخالف لما هي عليه في الوقت الحالي ، وذلك لأن القانون بصفة عامة يتأثر بالبيئة التي ينشأ فيها ، وكما اتضح أن المشرع المغربي شأنه شأن أغلب التشريعات المعاصرة تأثر بأفكار الثورة الفرنسية وبنى قانونه على  أفكار المدرسة التقليدية بشكل أساسي وأخذ ببعض أفكار المدرسة الوضعية أيضا إذ اشترط لقيام هذه المسؤولية توافر الأهلية القائمة على الإدراك والتمييز .

[1]- لطيفة الداودي : "الوجيز في القانون الجنائي المغربي " ، المطبعة الوراقة الوطنية مراكش ، الطبعة الثانية ، 2007 ، ص 123 . 

2- تجدر الإشارة في هذا الإطار ان الثورة الفرنسية ساهمت بشكل كبير في إرساء قواعد المسؤولية الجنائية بتبني مبدأ الشرعية الجنائية .هذا فضلا عن بعض المبادئ الأخرى الواردة في القوانين الصادرة منذ إعلان حقوق الإنسان والمواطن .                                      [3] نور محمد صدقي المساعدة ,المسؤولية الجزائية عن الجرائم الاقتصادية ,طبعة 2007 ، ص 38 .  

[4] سامي النصراوي ,النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي ,في الجريمة و المسؤولية الحنائية  ,الجزء الأول ,الطبعة الثالثة ص 209 .  

 [5] سامي النصراوي ، مرجع سابق ، ص 316 .

 [6] عبد  الواحد العلمي ,شرح القانون الجنائي القسم العام ,الطبعة الرابعة ، 2011 ، ص 293 . 

 [7] محمود سليمان موسى  ,المسؤولية الجنائية في التشريعات العربية و القانونين الفرنسي و الإيطالي دراسة مقارنة – ص 24 .

[8] حمد عوض بلال  ,الإثم الحنائي  ,دراسة مقارنة الطبعة الأولى – دار النهضة العربية ، 1988 ، ص 158 .

[9] محمود سليمان موسى ، مرجع سابق ، ص 23 .

[10] عبد الواحد العلمي ، مرجع سابق ، ص 116 إلى 118 و 338 إلى 339 .

[11]  محمود سليمان موسى  ,المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي ,ص 23 . 

[12] بشأن هذه الفروق يراجع و بتفصيل  :عبد الواحد العلمي  ، مرجع سابق ، ص 328 إلى 330 . 

[13]  ابن قيم الجوزية: أعلام الموقعين عن رب العالمين: الجزء الثاني، مكتبة الكليات الأزهرية  القاهرة 1968، ص 214،216

[14]  د. محمد كمال الدين إمام: المسؤولية الجنائية أساسها وتطورها، دراسة مقارنة في القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، 1991، ص 81

[15]  د. محمد كمال الدين إمام: مرجع سابق، ص 156

[16]  د.محمد كمال الدين إمام: مرجع سابق، ص 157.

[17]  د. العلمي عبد الله: شرح القانون الجنائي المغربي، ص 38

[18]  د. فتحي بهنسي: المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي ، الطبعة 2 سنة 1962 ص 12

[19]  نفس المرجع ص 13

[20]  د. العلمي عبد الواحد، المرجع السابق، ص38

[21]  د. العلمي عبد الواحد: مرجع سابق، ص 40/41.

[22] Emile brahier : transformation de la philosophie francaise. Flamorion. Paris 1950 p 91.

[23]  د. محمد كمال الدين إمام: المرجع السابق، ص 89

[24]  د. العلمي عبد الواحد، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، الطبعة الثالثة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2009، ص 41

[25]  د. إسماعيل صفاحي: جامعة ابن زهر- أكادير – محاضرات في القانون الجنائي العام، ص 21/75.

[26]  د. محمد حماد مرهج الهيتي: الخطأ المفترض في المسؤولية الجنائية، ص 16.

[27]  المرجع السابق ص 17

[28] لطيفة الداودي ، مرجع سابق ، ص 129 .

[29] قرار لمحكمة النقض عدد 2475 بتاريخ 25/04/1983 منشور في مجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية .

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات