القائمة الرئيسية

الصفحات

الأسس التاريخية والنظرية للقانون الإداري

الأسس التاريخية والنظرية للقانون الإداري

الأسس التاريخية والنظرية للقانون الإداري
الأسس التاريخية والنظرية للقانون الإداري

مقدمة
يعتبر القانون الإداري حديث النشأة، إذ يرجع تاريخ نشأته إلى القرن التاسع عشر،إلا أن قواعده لم تكتمل بعد في معظم الدول رغم الاجتهادات القضائية والفقهية المستمرة في هذا المجال، ورغم المؤتمرات الدولية للعلوم الإدارية( كان أولها بمدينة بروكسيل عام 1910 ) التي تسعى إلى تنمية أنظمة الإدارة بما في ذلك قواعد القانون الإداري.
فما هي الأسس التاريخية والنظرية للقانون الإداري؟
لعل فرنسا الدولة الوحيدة التي عرف فيها هذا القانون تطورا ملموسا، وكذلك الشأن بالنسبة للدول التي حذت حذوها.
ولكن ما هو الأمر بالنسبة للدول التي لم تنهج الطريقة الفرنسية في هذا المجال كالبلدان الأنكلوسكسونية ؟ وما هو النهج الذي سار عليه المغرب؟
إن تحليل هذه التساؤلات يقتضي تناول الموضوع في نقطتين الأولى القانون الإداري النشأة و التطور التاريخي ، والثانية : الأسس النظرية للقانون الإداري

المبحث الأول: القانون الإداري النشأة والتطور التاريخي


سنتناول في هذا البحث نشأة وتطور القانون الإداري في الأنظمة المقارنة، ثم نتطرق بعد ذلك إلى تطور هذا القانون في المغرب.

المطلب الأول: تطور القانون الإداري في الأنظمة المقارنة

نتناول - في هذا المجال- فرنسا باعتبارها البلد الأول الذي نشأ فيه القانون الإداري و دولة رائدة في هذا المجال ،فمصر لكونها البلد العربي الأطول تجربة في مجال القانون الإداري  . ثم نتعرض لخصوصية هذا القانون في الأنظمة الأنجلوسكسونية.

الفقرة الأولى:  ظهور القانون الإداري في كل من فرنسا ومصر

سنتطرق في هذه الفقرة لنشأة وتطور القانون الإدارة في فرنسا، وكذلك التجربة المصرية في هذا المجال.                             

أولا: فرنسا

لم ينشأ القانون الإداري في فرنسا دفعة واحدة  بل تدرج في النشأة، وساهمت في ذلك عدة عوامل بعضها تاريخي وبعضها سياسي وبعضها إجتماعي، وحيث أن القانون الإداري  نتاج عمل مجلس الدولة، فإن معرفة كيفية نشأة هذا القانون تقتضي   تتبع المراحل والحقب التي مرت منها آلة إنتاجه أي مجلس الدولة.
هكذا  منذ وضع النواة الأولى للقضاء الإداري في فرنسا، فإن القواعد التي أرساها في أحكامه القيمة، والنظريات التي صاغها فقهاء القانون بعد ذلك قد طورت القانون الإداري تطورا هائلا.


فالقانون الإداري يرتبط في نشأته بتاريخ فرنسا الإداري، وبتطور النظام القضائي فيها. والذي بدأ منذ الثورة الفرنسية سنة 1789م.أما قبل هذه الثورة فلم تكن توجد بفرنسا إلا محاكم عادية تفصل في المنازعات التي تنشأ بين الأفراد ، أما بالنسبة للمنازعات التي قد تنشأ بين الدولة والأفراد فقد كان موكولا بها إلى محاكم أخرى يطلق عليها " البرلمانات القضائية ".
ولما قامت الثورة الفرنسية كان من نتائجها إلغاء "البرلمانات القضائية" وإعلان وحدة وتكامل السلطة الإداية بالدولة. فأقامت نظاما إداريا مستقلا. تطور ذلك النظام الإداري إلى أن أدى الوضع إلى إيجاد محاكم إدارية متنوعة وعلى مختلف درجاتها.     
وفي اطار تطور القانون الإداري في فرنسا سنتطرق لمرحلتين:

v   مرحلة ما قبل الثورة وأجهزة العهد القديم:
في النصف الأول من القرن السابع عشر كان الملك لويس الرابع عشر يثير الأمور المتعلقة بمنازعات الإدارة إما في مجلسه مركزيا (ويطلق عليه مجلس الملك) أو يحيلها على جهاز يطلق عليه المتصرفونles intendants  يتواجد على المستوى الترابي الإقليمي.

· مجلس الملك:  
يتكون من حاشية الملك وأتباعه، كان يتأكد من ولائهم له بإشراكهم في الحكم عن طريق جمعهم في مجلس تناقش فيه أمور السياسة والتشريع والحكم، إضافة أن الملك كان يعطي عن نفسه صورة رمز للعدالة عملا بالمبدأ الذي كان سائدا "كل عدالة مصدرها الملك".
كانت تحال على مجلس الملك القضايا النزاعية التي تثيرها أعمال رجال الدولة. وقد أخذ هذا المجلس صورته النهائية في عهد لويس 14 عندما أصبح لكل شأن من شؤون الدولة مجلس أوإجتماع خاص به. والمجلس الذي كان يختص بالشؤون الإدارية أطلق عليه مجلس المستعجلات.

· المتصرفون/ المراقبون أو الممونون    les intendants
هم ممثلوا الحكومة المركزية في الأقاليم يتولون الإشراف على الإدارة الملكية ومراقبتها وخاصة في جانب تسييرها المالي. وكانوا   إلى كفاءتهم وثقة الملك بهم، يتولون النظر في بعض المنازعات الإدارية كدرجة أولى، على أن تستأنف قراراتهم أمام الوزراء أو أمام مجلس الملك، وكانت هذه القضايا تشمل المنازعات الجبائية والجمركية والوظيفية (اي المتصلة بوظائف الجيش وباقي مأموري الدولة).

v   مرحلة ما بعد الثورة:
فيما يلي سنتعرض للمراحل التي مر بها القضاء الإداري بعد الثورة الفرنسية إلى عصرنا الحالي. والتي تمثل في نفس الوقت مراحل نشأة القانون الإداري في فرنسا.

·  مرحلة الإدارة القاضية(l’admininstration juge)
عندما استتب الأمر لرجال الثورة الفرنسية قاموا بين سنة 1789 و1791 بحذف الأجهزة القضائية العادية والإدارية التي كانت قائمة في ظل العهد القديم وفكروا في طريق إعطاء مبدأ فصل السلطات مدلول يختلف عن الذي كان متداولا وقتها لفكرة مونتسكيو عن فصل السلط،" والذي كان يعني الفصل بينها مع ابقائها متداخلة بشكل تتعاون فيه مع بعضها،إذ مال رجال الثورة إلى إعطاءه مدلولا مختلفا يؤدي إلى فصل مطلق بين السلطات يمنع كل تدخل أو تداخل فيما بينها، وقرروا تبعا لذلك منع المحاكم القضائية من نظر منازعات الإدارة. وترجموا هذا المبدأ السياسي إلى مبدأ قانوني هو مبدأ فصل الهيآت الإدارية عن الهيآت القضائية الذي أصبح منذ ذلك الحين مبدأ أساسيا في القانون العم القرنسي.
وكان ذلك بموجب المادة 13 من قانون التنظيم القضائي الصادر سنة 1790 التي أكدت على مبدأ فصل السلطات الإدارية عن القضاء الإداري ونصها:" الوظائف القضائية مستقلة وتبقى منفصلة عن الوظائف الإدارية، وعلى القضاة - وإلا كانوا مرتكبين لجريمة الخيانة العظمى- ألا يتعرضوا بأية وسيلة من الوسائل لأعمال الهيآت الإدارية ".
كما صدر قانون بتاريخ 7-14 أكتوبر سنة 1790، ونص على إختصاص رئيس الدولة والوزراء – كل فيما يخصه – بالفصل في الدعاوى التي تكون الإدارة المركزية طرفا فيها.
غير أنه سرعان ما تبين خطأ التفسير الذي اعتنقه الثورة الفرنسية بخصوص مبدأ الفصل بين السلطات،والذي يتعارض مع قواعد العقل والمنطق. إذ كيف تسنى لجهة الإدارة أن تعترف بخطئها إذا ما تظلم أحد الأفراد منها وهي تقوم في ذات الوقت بدورين معا، دور الخصم ودور الحكم.

·       مرحلة القضاء الإداري المحجوز( La Justice Administrative Retenue)
حين أصبح نابليون القنصل الأول لفرنسا في عام 1800، تم الفصل بين الإدارة العاملة والإدارة القاضية بإنشاء مجلس الدولة (Le conseil d’Etat) في العاصمة الفرنسية ومجالس الأقاليم (Les conseils de préfectures) في الأقاليم الأخرى.وتم ذلك بمقتضى المادة 52 من دستور 1800 ، ولقد عهد إلى مجالس الأقاليم بمهمة الفصل في التظلمات التي يتقدم بها الأفراد ضد الإدارة في الأقاليم. أما عن إختصاص مجلس الدولة فقد مجرد ناصح للإدارة يقدم لها الإرشادات غير الملزمة سواء تعلق الأمر بموضوع تسيير الإدارة أو بحل المنازعات الإدارية. كما كان من دوره صياغة مشروعات القوانين قبل عرضها على البرلمان، كما يعمل كجهة إستئنافية بالنسبة للقرارات التي تصدر من مجالس الأقاليم والتييطعن فيها أمامه. إلا أن قرار مجلس الدولة لم يكن باتا ونهائيا وإنما كان معلقا على موافقة رئيس الدولة. لذلك أطلق على هذه المرحلة " مرحلة القضاء الإداري المحجوز".

·  مرحلة القضاء الإداري المفوض (La justice Administrative déléguée)
ظل الوضع الساق ساريا حتى عام 1872 حيث صدر في 24 ماي من نفس السنة قانون مجلس الدولة، صحح الوضع القانوني السابق. والذي بمقتضاه أصبح قضاء هذا المجلس نهائيا وأحكامه لاملزمة للإدارة (وغير معلقة على تصديق جهة أخرى)
فانتقل من مرحلة القضاء الإداري المحجوز إلى القضاء الإداري المفوض، لأن أمر الفصل في المنازعات الإدارية أصبح مفوضا إليه. وبذلك قام مجلس الدولة الفرنسي كمحكمة قضائية بالمعنى الصحيح، بالإضافة إلى دوره في مجال الإفتاء وصياغة التشريع. ونص نفس القانون على إنشاء محكمة تنازع الإختصاص (Tribunal des conflits) للفصل في منازعات الإختصاص التي يمكن ان تثار بين جهتي القضاء العادي والإداري وبذلك أقام المشرع الفرنسي نظام القضاء المزدوج. القضاء العادي وعلى رأسه محكمة النقض، والقضاء الإداري ويشمل المحاكم الإدارية وعلى رأسها مجلس الدولة.
غير أن قيام مجلس الدولة كمحكمة للقضاء الإداري لم يضع حدا لنظام الإدارة القاضية،
بل ظلت هي القاضي العام في المنازعات الإدارية، حتى أواخر القرن التاسع عشر.

· مرحلة إستقلال القضاء الإداري(Indépendance de la Justice Adminstrative)
قي 13 ديسمبر سنة 1889 تم الإعلان عن رفض مجلس الدولة للوضع السابق، محاولا القضاء على نظرية الوزير القاضي بحكمه الشهير في قضية كادو(Cadot) التي قرر فيها قبول دعوى مرفوع من صاحب الشأن مباشرة دون مروره على الوزير أولا.فأصبح مجلس الدولة قاضي القانون العام إلا ما استثني بنص خاص.

· إحداث محاكم إستئناف إدارية في فرنسا
أدخلت على الجهاز القضائي الفرنسي تعديلات بمقتضى القانون رقم 1127/87 الصادر في 31 ديسمبر1987، وخاصة الفصل الأول منه الذي يقضي بإحداث محاكم إستئناف إدارية للنظر في أحكام المحاكم الإدارية بإستثناء بعض القضايا. كما منحت الحق في النظر في قضايا التعويض وذلك في مجالات معينة.
وقد ترتب عن ذلك أن أصبح القضاء الإداري في فرنسا يضم ثلاثة أنواع من المحاكم وهي:
-                    مجلس الدولة.   – محاكم الإستئناف الإدارية.    – المحاكم الإدارية.
والجدير بالذكر، أن فرنسا تعد رائدة الدول التي تعرف قواعد القانون الإداري فيها تطورا ملموسا بفضل تطور أجهزة القضاء الإداري الفرنسية والتي يرجع لها الفضل في إكتشاف وتطور قواعد ذلك القانون تبعا لإجتهاداتها المستمرة والمتطورة.

ثانيا: مصر

سنتعرض لدراسة نشأة القانون الإداري في هذه الدولة قبل إنشاء مجلس الدولة في عام 1946 ثم بعد إنشائه وذلك على مرحلتين:

v   القانون الإداري في مصر قبل سنة 1946
قبل إنشاء المحاكم المختلطة سنة 1875 والمحاكم الأهلية سنة 1883 لم يكن هناك قانون إداري بالمعنى المعروف حديثا. شأنه في ذلك شأن سائر القوانين.
كما أن الظروف العديدة التي خلفها الحكم العثماني ثم الإستعمار البريطاني قد أثرت في تخلف النظام القانوني فيها. فلم يكن هناك وجود لمبدأ فصل السلطات حيث كانت الإدارة تقوم بوظائف التنفيذ والتشريع والقضاء معا. فكانت كلمتها هي العليا. ولم  يكن لأحد الحق في أن يطعن في تصرفاتها أو يتناولها بالنقد. 

·  أنشئت "المحاكم المختلطة" في 28 ديسمبر 1875،والتي حلت محل
"المحاكم القنصلية" أوكل لها المشرع الحق بالنظر في:
-   العلاقات والمنازعات التي يكون أحد أطرافها على الأقل من الأجانب.
-  المنازعات التي يكون أحد أطرافها من الأجانب ويكون الطرف الآخر الحكومة.ولكن المشرع لم يمنح هذه المحاكم الإختصاص المطلق أو الشامل – في هذا المجال – بل حصره في حدود البحث في مشروعية العمل الإداري توطئة للحكم بالتعويض.  
·    في 4 يوليوز 1883، حينما أنشأ المشرع المحاكم الوطنية أو الأهلية
 بين صراحة أنه:
-  ليس لهذه المحاكم أن تتعرض لعمل إداري يعتبر من أعمال السيادة.
-  وليس لها الحق في أن تتعرض  للقرارات  الفردية لا بالتأويل ولا بالإيقاف ولكن يحق لها أن تقضي بإلزام الإدارة بالتعويض فقط.
-  ولها أن تبحث في مشروعية اللوائح التنظيمية (أي المراسيم والقرارت التنظيمية) فإن ثبت عدم مشروعيتها، امتنعت المحكمة عن تطبيقها دون أن يكون لها حق الحكم بإلغائها.
·    حينما صدر دستور سنة 1923، نص صراحة على مبدأ الفصل بين السلطات، وحدد إختصاص كل سلطة منها وبذلك أصبح للسلطة القضائية حق النظر في جميع المنازعات إلا ما أستثني منها بنص خاص وان تطبق على ذلك قواعد القانون الخاص، ماعدا بالنسبة للروابط والمراكز العامة التي تقتضي تطبيق قواعد القانون العام.  

v   القانون الإداري في مصر قبل سنة 1946
في سنة 1946، اصدر المشرع القانون رقم 112 لسنة 1946 الخاص بإنشاء مجلس الدولة، الذي يتكون من قسم الرأي وقسم التشريع، ومن محكمة القضاء الإداري. فخوله حق الفصل في كثير من المنازعات الإدارية دون التقيد بالنصوص المدنية البحتة. وذلك لإعطاء الفرصة للقضاء الإداري لإرساء المزيد من المبادئ والقواعد الإدارية التي تتلاءم مع الطبيعة الخاصة للمنازعات الإدارية.
كما أصدر المشرع المصري القانون رقم 47 لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة. وبمقتضى ما جاء فيه أصبح المجلس صاحب الولاية العامة في المنازعات الإدارية، بعد أن كان إختصاصه محددا على سبيل الحصر.  
ومنذ ذلك التاريخ ومجلس الدولة المصري يعمل على إرساء قواعد القانون الإداري فابتدع الكثير من القواعد والمبادئ الإدارية، كما أثبت قدرته الفائقة على إستيعاب المشاكل والمنازعات الإدارية ووضع لها الحلول المناسبة القائمة على التوازن بين تحقيق مصلحة الإدارة التي تمثل المصلحة العامة وبين مصلحة الأفراد التي المصالح الخاصة. وبفضل إجتهاداته المتواصلة في المجال الإداري وصل القانون الإداري المصري درجة لا يستهان بها من التطور.

الفقرة الثانية: خصوصية  القانون الإداري في الأنظمة الأنجلوسكسونية

هناك دول كثيرة لم تعرف الظروف والأحداث التي عاشتها فرنسا وأدت بها إلى إحداث مجلس الدولة، ولم ترى هذه الدول أن تحذو حذوها وتأخذ بإزدواجية القضاء وبإزدواجية القانون. فلم تنظم جهة قضائية ثانية للمنازعات الإدارية، بل إنها أخضعت كافة المنازعات سواء حدثت بين الأفراد أو بينهم وبين السلطات الإدارية العمومية، لجهة قضائية واحدة أي القضاء العادي. وتعتبر المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية مهد هذا النظام.
ويرى الأستاذ دولوبادير أن السبب الرئيسي الذي أدى بالأنجلوسكسونيين إلى نبذ قواعد خاصة ومحاكم إدارية، هو خشيتهم من أن يؤدي ذلك إلى المساس بحريات الأفراد وحقوقهم نتيجة عدم مساواتهم مع رجال السلطة العمومية أمام القضاء لذا تمسكوا بالمبدأ القائل أن القانون فوق الجميع ويجب على الكل الخضوع له،ولن يتأتى احترام هذا المبدأ إلا بفضل قانون موحد وقضاء موحد. فالإدارة في نشاطها وفي مختلف السبل التي تستعملها لتحقيق هذا النشاط يجب أن تعامل كعادة عامة كما يعامل الأفراد سواء بسواء.

أولا: انجلترا (المملكة المتحدة)

إن نظام القانون الإداري في إنجلترا لم يعرف تطورا ملموسا كما هو الشأن في فرنسا وفي البلاد التي حذت حذوها. ولعل من أبرز الأسباب في ذلك خضوع أعضاء الإدارة – كقاعدة عامة – لمحاكم القضاء العادي( وحدة القضاء)، فالمحاكم العادية هي صاحبة الولاية العامة بالفصل في كل المنازعات سواء ما يقوم منها بين الأفراد والإدارة أو بين الهيئات الإدارية ذاتها.
وتطبق المحاكم الإنجليزية قانونا واحدا على جميع أنواع المنازعات (وحدة القانون).وهو القانون الخاص بقواعده ومبادئه ونصوصه. فلا تميز بين المنازعات الإدارية وغير الإدارية، لأنها كلها منازعات خاضعة لقانون واحد هو القانون الخاص. الأمر الذي أدى إلى بطء نمو قواعد ومبادئ القانون الإداري في إنجلترا.
وتمتلك المحاكم العادية في إنجلترا على الإدارة وموظفيها السلطات التالية:
-  سلطة إصدار أوامر مكتوبة إلى موظفي الإدارة العمومية. وبمقتضاها تلزمهم بعمل شيء أو الإمتناع عنه أو بتعديل قراراتهم أو بإلغائها، وذللك إحتراما للقانون وتحذيرا لهم من مخالفة أحكامه وفي حالة إمتناعهم للإستجابة تنسب إليهم جريمة إمتهان كرامة القضاء. وهذا ما دفع العض إلى أن يطلق على الإدارة الإنجليزية إسم "الإدارة القضائية" أي الإدارة الخاضعة لهيمنة القضاء.
-  سلطة متابعة الموظفين جنائيا إذا انطوت على جرائم جنائية.
-  سلطة الحكم بالتعويض على الأشخاص المعنوية أو ضد الموظفين بصفتهم الشخصية استنادا إلى الفعل الضار.إلا انه في الحالة الأخيرة فإن الدولة هي التي تتولى دفع مبلغ التعويض المحكوم به على الموظف وذلك نيابة عنه على أساس الرأفة والمنحة.
وإذا كان الهدف من هذا البحث هو التوصل إلى المكانة التي يحظى بها القانون الإداري في إنجلترا فإنه يمكن القول أنه مما لا شك فيه أن النظام الإنجليزي يستمد من القانون الإداري بمعناه الفرنسي، ذلك الجانب التنظيمي الخاص ببناء الإدارة العمومية وتحديد هياكل الجهاز الإداري. كما أنه يستمد من القانون الإداري ذلك الجانب الذي يقر للسلطة الإدارية بحق إتخاذ بعض الإجراءات لتحقيق المنفعة العامة.
ولكن هذا القانون يفتقر إلى النمو والتجديد في قواعده ومبادئه لأن الهيئة القضائية المختصة بالنظر في المنازعات الإدارية والتي تسهر على تنمية قواعد ومبادئ ذلك القانون بقواعد مختلفة عن قواعد القانون الخاص لا وجود لها في النظام الإنجليزي. إذ يوجد فقط العادي الذي تنعقد له الولاية بالفصل في كافة المنازعات الإدارية منها وغير الإدارية وذلك بقواعد القانون الخاص. فلا يجوز لهذا القضاء الإنتقال إلى قواعد أخرى إلا إذا فرض عليه المشرع ذلك بنص خاص وعلى سبيل الإستثناء.  

ثانيا: الولايات المتحدة الأمريكية

على النسق الإنجليزي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية – من حيث الإتجاه العام – قد أخذت بوحدة القضاء ووحدة القانون. لقد أخذت بوحدة القضاء لأنها وجدت فيه التطبيق الذي يسعى إليه مبدأ فصل السلطات الثلاث. وهذا المبدأ الذي ينبغي أن يقوم على أساس التخصص الوظيفي. مما يستتبع ذلك قيام المحاكم القضائية بالنظر في كافة أنواع المنازعات الإدارية بغض النظر عن أطرافها. كما أخذت بوحدة القانون تحقيقا لمبدأ المساواة بين الحكام والمحكومين.
كما اتجه النظام الأمريكي في منتصف القرن العشرين إلى إنشاء مجالس وهيئات متخصصة بالنظر في المنازعات الإدارية – شأنه شأن المشرع الإنجليزي -، ومن أمثلة ذلك الهيئة الوطنية لمتابعة العمال واللجنة الفدرالية للتجارة، إلا أن هذه الهيئات مقيدة باختصاصات خاصة يحددها المشرع، وهي تفتقر في تشكيلها إلى قضاة متخصصين، كما أن الأعمال الصادرة عنها لا تعد أحكاما قضائية وإنما هي قرارات إدارية تبعا للحجج والأسانيد التي قدمها المعارضون في هذا المجال.
والجدير بالذكر في هذا المجال، أن المشرع الأمريكي وإن كان قد أصبغ على الهيئات أوالمجالس التي أنشأها - للنظر في المنازعات الإدارية – سمات معينة إلا أنها لا تعد محاكم إدارية، ومن ثم فإن إلتزامها بتطبيق قواعد القانون المدني يقيد من صلاحيات التوسع في تطبيق مقتضيات القانون العام على منازعاتها.   
وترتيبا على ذلك يمكن القول  إن النظام الأمريكي يتضمن قانونا إداريا بالمعنى الواسع من حيث الجانب التنظيمي الخاص ببناء الإدارة العمومية وتحديد هياكل الجهاز الإداري...إلخ. شانه في ذلك شأن كافة النظم المتحضرة، إلا أنه يفتقر إلى وجود قانون إداري بمعناه الفني والمتطور.   

المطلب الثاني: نشأة و تطور القانون الإداري في المغرب

لتوضيح نشأة وتطور هذا القانون في المملكة المغربية،تقتضي الضرورة التمييز بين مرحلتين: مرحلة ماقبل إحداث المحاكم الإدارية (أي مرحلة القضاء الموحد) ومرحلة ما بعد إحداث تلك المحاكم (أي مرحلة القضاء الإداري المتخصص)، إلى جانب القضاء العادي ذي الولاية العامة.

الفقرة الأولى: مرحلة القضاء الموحد

قبل الحديث عن هذه المرحلة، والتي يمكن تقسيمها إلى فترتين : فترة الحماية(من سنة 1912 إلى سنة 1956) ثم فترة الإستقلال والتي يهمنا منها في هذا المجال فترة من سنة 1957 تاريخ إحداث المجلس الأعلى إلى سنة 1993 تاريخ إحداث المحاكم الإدارية،سنطرق إلى قانون الإدارة قبل الحماية.

أولا: قانون الإدارة قبل الحماية

نستطيع القول أن المغرب لم يكن في ظلام مطبق وطغيان مطلق، لم يخلصه منه سوى بزوغ فجر الحماية ، ونور قوانينها "الإصلاحية". رغم أن مغرب ما قبل الحماية، كانت سلطات الحكم والإدارة فيه ،مجتمعة في يد السلطان يفوضها إلى وزير تفويض كلما توسع نوع وحجم القضايا المعروضة عليه ،فإن السلاطين المغاربة كانوا يولون لمنصب القضاء أهمية خاصة بحيث كان في نظرهم أهم المناصب وأعظم الولايات بعد الأمانة العظمى.
في القرن 19 ، عندما بدأ التنظيم الوزاري،وأصبحت الحكومة تشكل من الصدر الأعظم (الوزير الأول) ووزير الحرب ووزير البحر ووزير المالية ، أسندت مهمة رد المظالم إلى خاص أطلق عليه إسم وزير الشكايات. وكان وزير الشكايات يقوم من بين الوظائف المسندة إليه بفحص شطط إستعمال السلطات الإدارية تجاه المتعاملين معها.      
وحاصل القول أن المغرب عرف ما قبل الحماية نظاما إداريا بأجهزته المتنوعة، وكان لهذه الأجزة من دون شك قانون يحكمها ،قواعده مستقاة من أحكام الشريعة  الإسلامية ،والعادات المنبثقة عن الواقع ،ولكنه لم يكن في وقت من الأوقات قانونا ذي قواعد متميزة على غرار القانون الإداري الفرنسي. غير أن إنعدام الشبه بين القانون المبطق على الإدارة المغربية وقتها وبين القانون الإداري كما هو معروف ، لا ينتقص من قيمة القواعد المغربية قيد أنملة، كما لم تكن الإدارة الإسلامية إدارة مختلة بل كانت إدارة عادلة إلى حد كبير، مع بعض التفاوت حسب الحقب والفترات.
غير أنه، مادام القانون الإداري يرتبط نشأة بوجود قضاء إداري، وهو ما لم يتوفر في مغرب ما قبل الحماية، فلم يوجد تبعا لذلك قانون إداري.      

ثانيا: مرحلة الحماية و مرحلة الإستقلال

v   مرحلة الحماية
لما فرضت الحماية على المغرب في 30 مارس 1912،قامت السلطات الفرنسية بعدة إصلاحات تخدم مصالحها. وبالنسبة للمجال الإداري فقد قامت بإنشاء محاكم فرنسية تختص بالنظر في بعض القضايا الإدارية طبقا للفصل الثاني من ظهير 12 غشت 1913، ولم ير مشرع الحماية آنذاك سبيلا إلى إحداث قضاء إداري متخصص رغم أنه أخذ بإزدواجية القانون. والسبب في ذلك يرجع إلى أن النزاعات الإدارية التي كانت تحدث آنذاك كانت تتصف بالبساطة وعدم التعقيد.
وتبعا لذلك،يمكن القول بأن القانون الإداري قد بدأت نشأته في هذه الفترة، إلا أن تطوره كان بطيئا جدا نظرا لما كان يعانيه من قيود وعراقيل الدولة الحامية.وذلك لعدة أسباب نذكر منها:
- قلة المنازعات الإدارية التي كانت تعرض على القضاء.
- أغلب المنازعات التي كانت تعرض على المحاكم الفرنسية المختصة هي تلك المتعلقة بصفقات الدولة والأشغال العمومية والمسؤولية الإدارية.
- بالنسبة للنزاعات الإدارية المتعلقة بإلغاء القرارات الإدارية المشوبة بعيب عدم المشروعية بالنسبة للموظفين المغاربة، فكان موكول بها إلى مجلس الدولة الفرنسي.

v   مرحلة الإستقلال
يهمنا من هذه المرحلة الفترة الممتدة من سنة 1957 (إنشاء المجلس الأعلى) إلى سنة 1993 (قبل العمل بقانون المحاكم الإدارية) حيث كان الإختصاص في المنازعات الإدارية موكول به إلى القضاء العادي ونخص بالذكر المجلس الأعلى ثم المحاكم الأخرى كل قي حدود إختصاصه وبالشكل الذي لا يتعارض وأهداف الدعوى الموازية.
ولقد كان هذا التوجه مقررا بقيام المشرع – عند الاستقلال – بإحداث المجلس الأعلى المذكور بظهير 27 شتنبر 1957، وبعمله على توحيد المحاكم بالقانون الصادر في 26 يناير 1965 أصبحت المحاكم المغربية موحدة بالمملكة.
وبمقتضى التنظيم القضائي للمملكة الصادر بتاريخ 15 يوليوز 1974 أصبح الجهاز القضائي المغربي متكون من:

محاكم الجماعات والمقاطعات،المحاكم الإبتدائية،محاكم الإستئناف،المجلس الأعلى.
منذ إنشاء المجلس الأعلى(27 شتنبر 1957) وهو دائب على إرساء قواعد القانون الإداري المغربي وذلك بنظرياته ومبادئه.واستطاع بمقتضى اجتهادته المواصلة أن منه قانونا له ذاتيته المستقلة، وأن يحرره من الصيغة المدنية في جل جوانبه.

الفقرة الثانية: مرحلة القضاء الإداري المتخصص  

عرفت هذه المرحلة إن طلاقتها بإنشاء المحاكم الإدارية، وذلك بالقانون رقم 41.90 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.91.225 بتاريخ 10 سبتمبر 1993 المحدث بموجبه محاكم إدارية وكذا بإنشاء محاكم الإستئناف الإدارية بالقانون رقم 80.03 لسنة 2006، لتختص بالنظر في إستئناف أحكام المحاكم الإدارية وأوامر رؤسائها ما عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة، ثم يطعن بالنقض في أحكامها أمام المجلس الأعلى الذي يملك بالإضافة إلى ذلك إختصاصات أخرى.  

أولا:إختصاص المحاكم الإدارية ومحاكم الإستئناف الإدارية

v   إختصاصت المحاكم الإدارية
لقد حددها القانون المحدث لهذه المحاكم ، وهي : اختصاصات محلية

وإختصاصات  نوعية .
فبالنسبة للاختصاص المحلي للمحاكم الإدارية فتطبق بشأنه قواعد الاختصاص المحلي المنصوص عليها في الفصل من 27 إلى 30 من قانون المسطرة المدنية ، ما لم ينص على خلاف في هذا القانون أو في نصوص أخرى خاصة.
واستثناء من ذلك ، ترفع طلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة إلى المحكمة الإدارية التي يوجد موطن طالب الإلغاء داخل دائرة اختصاصها.
أما بالنسبة للإختصاص النوعي للمحاكم الإدارية ، فقد بينته المادة 8 من القانون المذكور ، والتي جاء فيها : أنه تختص الماحكم الإدارية مع مراعاة المادتين 9 و 11 من القانون المذكور بالبت ابتدائيا :
-  في طلبات إلغاء قرارات السلطات الإدارية بسبب تجاوز السلطة،
- في النزاعات المتعلقة بالعقود الإدارية،     
- في دعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام.
- بالنظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمعاشات، ومنح الوفاة المستحقة للعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة وموظفي إدارة البرلمان بمجلسيه،
- ما يخص تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالإنتخابات  والضرائب ونزع الملكية لأجل المنفعة العامة،
- في الدعاوى المتعلقة بتحصيل الديون المستحقة للخزينة العامة،
- بالنظر في النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للموظفين والعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة.
أما بالنسبة لمحكمة الرباط الإدارية ، فقد أوكل لها المشرع بالإضافة إلى الإختصاصات العامة الواردة في المادة 8 – التي سبق ذكرها – حق النظر في النزاعات المتعلقة بالوضعية الفردية للأشخاص المعينين بظهير شريف أو مرسوم ، وبالنزاعات الراجعة إلى إختصاص المحاكم الإدارية التي تنشأ خارج دوائر إختصاص جميع هذه المحاكم ، وذلك وفقا لما تنص عليه المادة 11 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية ، وهذه المادة تعد من الإستثناءات الواردة على المادة 8 من القانون المذكور.

v   إختصاصات محاكم الإستئناف الإدارية
إن إحداث محاكم الإستئناف الإدارية جاء حديثا (سنة 2006) لتصبح هذه المحاكم مختصة بالنظر في إستئناف أحكام المحاكم الإدارية وأوامر رؤسائها ، ماعدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة ، بموجب المادة 5 من القانون رقم 80.03.
أما عن الفترة الممتدة مابين مارس 1994، التاريخ الفعلي لممارسة المحاكم الإدارية لاختصاصاتها ، وسنة 2006 تاريخ إحداث محاكم الاستئناف الإدارية ، فكان الإختصاص في استئناف الأحكام الصادرة عن المحاكم الإدارية من مهام المجلس الأعلى ( غرفته الإدارية).

 ثانيا: إختصاصات المجلس الأعلى(الغرفة الإدارية)       

تختص الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى إما بصفة ابتدائية وانتهائية في بعض القضايا الإدارية، وإما بصفتها محكمة استئناف إدارية، وإما بصفتها محكمة نقض في الأحكام الصادرة عن محاكم الإستئناف الإدارية.
فبالنسبة للاختصاصات التي تنظر فيها ابتدائيا وإنتهائيا هي تلك المتعلقة بطلبات الإلغاء بسبب تجاوز السلطة فيما يخص " التصرفات التنظيمية والفردية الصادرة عن الوزير الأول وقرارات السلطات الإدارية التي يتعدى نطاق تنفيذها دائرة الإختصاص المحلي لمحكمة إدارية.
أما بالنسبة للإختصاصات التي تنظر فيها كمحكمة إدارية فتتعلق بالأحكام والقرارات ذات الصلة بالإختصاص النوعي باعتبارها محكمة التنازع وكذا الأحكام الصادرة عن المحاكم القضائية في منازعات ذات مقتضيات قانونية خاصة.

المبحث الثاني: الأسس النظرية للقانون الإداري


يعتبر القانون الإداري فرعا من فروع القانون العام الداخلي – تمييزا له عن القانون العام الخارجي الذي ينظم العلاقات بين الدول - حيث تندرج تحته مختلف القواعد التي تنظم تشكيل السلطات العامة وصلاحياتها وعلاقاتها بسائر أفراد المجتمع
سوف نتناول في هذا المبحث، الأسس المؤسساتية والعضوية للقانون الإداري في المطلب الأول ، بعدها سوف نعرج في المطلب الثاني للإحاطة بالاجتهادات القضائية والفقهية في مجال القانون الإداري.

المطلب الأول: الأسس المؤسساتية والعضوية للقانون الإداري
   
من المسلمات المتعارف عليها أن القانون الإداري ينضوي ضمن أصناف القوانين المتعلقة بتنظيم الدولة، أي القانون العام الداخلي، فالقانون الإداري يرتكز على المبادئ القانونية والسياسية التي تكون مفهوم الدولة كما أفرزته التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها المجتمعات الأوروبية. بحيث أن القانون الإداري ليس بالقانون المجرد أو القانون المنزل، بل هو قانون يتموضع تاريخيا وسياسيا في ظروف عاشتها المجتمعات في وقت معين من تطورها.
سوف نتناول هذا المطلب من خلال التطرق إلى القانون الإداري باعتباره قانون الإدارة، ولكن قبل ذلك سوف نتناوله باعتباره قانون الدولة.

الفقرة الأولى: القانون الإداري قانون الدولة



يعتبر القانون الإداري قانون الدولة بامتياز، وذلك راجع لكونه يندرج ضمن المشاكل الأساسية التي يعنى بها علم السياسة والتي تتعلق بالعلاقة بين الدولة والمواطن، بين السلطة والحرية، وبين المجتمع والفرد.
في البداية سوف نتناول القانون الإداري بإعتباره نتاج لحاجة إجتماعية "أولا" قبل أن نعرج على الصعوبات التي يجسدها تعريف الدولة بحد ذاته، بدلالاته وأبعاده في علاقته بالنشاط الإداري " ثانيا"

أولا: القانون الإداري نتاج لحاجة إجتماعية

تنشأ القواعد القانونية بصفة عامة، نتيجة لمجموعة من المعطيات على غرار اجتماع الناس أو البشر معا في منطقة جغرافية مكونين بذلك كثلة بشرية منصهرة فيما بينها.
فلا يمكن تصور وجود الإنسان إلا في وسط غيره من بني الإنسان، وذلك بهدف أساسي هو إشباع حاجاته الإنسانية. غير أن تجمع الناس معا لإشباع حاجاتهم على هذا النحو يكون مستحيلا بدون تنظيم،
ولقد ازدادت أهمية القانون الإداري وتعددت قواعده ومبادئه مع ازدياد اختصاصات وامتيازات السلطة الإدارية في العصر الحديث نتيجة لتضخم وتوسع وتشعب المهام والوظائف التي أصبحت الدولة تضطلع بها. فقد تطورت وظائف الدولة من الوظائف التقليدية للدولة الحارسة التي تقتصر مهمتها على الدفاع عن أرض الدولة وتحقيق الأمن والعدل لأفرادها..إلى الدولة المتدخلة والمنتجة التي تسعى جاهدة من أجل تحقيق رفاهية المواطنين ورخائهم في شتى المجالات، مما اقتضى قيامهما بمهام جديدة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكل ذلك أدى إلى ازدياد أهمية الدور الذي يقوم به القانون الإداري في الدولة المعاصرة.

ثانيا: الدولة وتحديد العنصر الإداري:

نجد نفس الصعوبات التي تواجه الباحث في تحديد تعريف جامع وموحد للدولة بمفهومها الشمولي هي نفس الصعوبات التي تعترضه حين يريد تحيد الإدارة. ذلك أن الإدارة العمومية على الأقل في مظاهرها الأساسية لا تعدو أن تكون مظهرا من مظاهر الدولة بصفة عمومية.
كثير من الأساتذة والفقهاء يعرفونها كنشاط عام يهدف إلى تحقيق الصالح العام.
لكن هذا التعريف البسيط لا يمكن ان يعطي المفهوم الذي نريده هنا أي المفهوم الذي يميز الإدارة كبنية عمومية تتعامل أساسا مع وبالقانون الإداري.
تعريف الإدارة تعترضه صعوبة أولى تكمن في المعنيين اللصيقين بالإدارة، فهذه الأخيرة لها معنى عضوي، أي انها تتحدد في مجموع البنيات والأجهزة التي تباشر النشاط الهادف إلى تحقيق الصالح العام. وانطلاقا من هذا المعنى نصل إلى أن الإدارة مجموعة من الهيئات والتنظيمات مختلفة الطبيعة والمنهج وحجم الإختصاصات، فإلى جانب الإدارة المركزية ومصالحها الخارجية هناك الإدارة المحلية وإدارة المؤسسات العمومية.
كما أنه بالإضافة إلى الإدارة التقليدية هناك أنواع أخرى من البنيات الإدارية الجديدة التي تحاول مواكبة التطور الذي يعرفه باستمرار دور الدولة داخل المجتمع، فهناك الإدارات الإقتصادية والاجتماعية ، هناك اللجان الدائمة، هناك المجالس الدائمة، هناك نمادج جديدة من الهياكل الإدارية يصعب إدخالها في التنظيمات الإدارية الكلاسيكية.
كما أن الإدارة لها معنى وظيفي يكمن في النشاط الذي تمارسه الإدارة والذي تريد من خلاله تحقيق المصلحة العامة. وبهذا المعنى يتسع مفهوم الإدارة ليشمل عدة بنيات ولو أنها تسير من طرف الخواص مادام نشاطها يهدف إلى الصالح العام.

الفقرة الثانية : القانون الإداري قانون الإدارة

يمكن رد الأمور التي يتناولها القانون الإداري ـ بصفة عامة ـ إلى موضوعات رئيسية أربعة ، وهي : تنظيم الإدارة، نشاط الإدارة، وسائل الإدارة وامتيازتها ثم رقابة القضاء على أعمال الإدارة.
سوف نتناول في هذا الصدد تنظيم ونشاط الإدارة كنقطة أولى، قبل أن نتحدث حول أسلوب الإدارة ورقابة الإدارة على أعمالها.

أولا: تنظيم ونشاط الإدارة

يرتكز موضوع القانون الإداري على كيفية تكون الإدارة، وكيفية ممارسة الوظيفة الإدارية، فيحدد الشخصية المعنوية وأشخاص القانون العام ونظام المركزية واللامركزية الإدارية.
كما أنه يرتكز النشاط الإداري أو بمعنى أدق  العمل الإداري على كفالة إشباع الحاجيات العامة للأفراد والسهر على تحقيق رغباتهم المشروعة عن طريق المرافق العامة، ولمصطلح المرفق العام مدلولان: فقد يقصد به المدلول الشكلي أو العضوي، أي الهيئة أو المنظمة التي تتولى إشباع حجة عامة، وقد يراد به المدلول المادي أو الموضوعي أي الخدمة التي ذاتها تؤدى  أو النشاط الذي يمارس لتحقيق النفع العام وسد الحاجيات العامة للأفراد.

ثانيا: أسلوب الإدارة ورقابة قضاء على أعمالها

تقوم الإدارة لأداء وظيفتها بأعمال متنوعة. يمكن تقسيمها إلى ظائفتين:
1 ـ الأعمال القانونية: هي تلك الأعمال التي تقوم بها الإدارة بهدف ترتيب آثار قانونية معينة عليها، وذلك بانشاء مراكز قانونية جديدة أو بإحداث تعديل في المراكز القانونية القامة من قبل، سواء أكانت تلك المراكز القانونية عامة أو خاصة.
وتنقسم هذه الأعمال بدورها إلى نوعين: الأعمال القانونية الصادرة من جانب واحد، وتشمل القرارات الإدارية التنظيمية والقرارات الإدارية الفردية، ثم الأعمال الصادرة من جانبها، وتتم بناء على اتفاق بين الإدارة وغيرها من الهيئلت والأفراد وهي العقود الإدارية.

2ـ الأعمال المادية: هي تلك الأعمال التي تقوم بها الإدارة دون أن تقصد ترتيب أي آثر قانوني عليها، سواء بانشاء مراكز قانونية جديدة أو باحداث تعديل في المراكز القانونية عامة أو خاصة. ومن أمثلة هذه الأعمال تلك التي تنجز تنفيذا لأعمال قانونية سابقة، كهدم منزل مهدد بالسقوط ثم ووضع الأختام في محل.
ولما كانت الإدارة تمثل المصلحة العامة وتعمل على تحقيقها باسم الجمهور  فقدت اعترفت لها القوانين في جميع الدول. بحقوق وامتيازات كثيرة تمكنها من أداء وظائفها. ومن أمثلة هذه الإمتيازات سلطة الأدارة في نزع الملكية من أجل المنفعة العامة  والإستيلاء المؤقت على القرارات  وحقها في الإلتجاء إلى التنفيذ المباشر في حالات خاصة.
أما على مستوى الرقابة القضائية على أعمال الإدارة، فالضمانة الأساسية التي تحمي الأفراد من تعسف الإدارة وتحكمها، إنما تتركز في خضوع تلك الإدارة للقانون فيما تأتيه من أعمال وتتمتع به من امتيازات، وهذه الضمانة متحققة في الوقت الحاضر بفضل الأخد بمبدأ هام هو " مبدأ الشرعية  الذي أصبح طابعا مميزا للدولة الحديثة. وإذا لم يتحقق هذا الذي المبدأ الذي أصبح طابعا مميزا للدولة الحديثة. وإذا لم يتحقق هذا المبدأ في الأعمال التي تقوم بها الإدارة كان الجزاء هو بطلان العمل الإداري سواء أكان عملا قانونيا أو عملا ماديا.
فإذا كان عملا غير قانونيا حكم القضاء بإلغائه وترتب على ذلك زوال آثاره بأثر رجعي وإذا كان عملا ماديا ما فإن بطلانه يستتبع الحكم على الإدارة بإزالة ما تترتب عليه من آثار وإعادة الحالة إلى ما كانت عليهها. وقد يترتب بالإضافة إلى ذلك الحكم بالتعويض في الحالة التي تنتج عن تلك الأعمال أضرار مختلفة تكون قد مست العاملين بالإدارة أو المتعاملين معها من الجمهور.

المطلب الثاني: الإجتهادات الفقهية والقضائية

يعتبر القانون الإداري في الأصل قانونا غير مكتوب، ويجد منبعه وأصله في الإجتهادات القضائية بالأساس، وخصوصا في فرنسا، مهد هذا القانون.
سوف نتناول في هذا الصدد الإجتهادات الفقهية ـ الفقرة الأولى ـ قبل أن نتناول كذلك الإجتهادت القضائية ـ الفقرة الثانية ـ

الفقرة الأولى: الإجتهادات الفقهية:

تعتبر مشكلة التعريف إحدى النقاط التي عرفت خلافا وجلادا فقهيا كبيرين منذ حوالي قرن من الزمان، ولا يزال الخلاف مستمرا.
ويتجاذب التعريف منذ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مدرستان هما: مدرسة المرفق العمومي ـ أولا ـ ومدرسة السلطة العامة ـ ثانيا ـ  ، ونتيجة لذلك أسس مجموعة من الفقهاء تيار موازي أسموه المدرسة المختلطة ـ ثالثا ـ

أولا : مدرسة المرفق العمومي و مدرسة السلطة العامة:

v   مدرسة المرفق العمومي
أسس وتزعم مدرسة المرفق العمومي الفقيه الفرنسي ليون ديجوي وشايعه الفقها روجي بونار ولويس رولاند وجاستون جيز. والمدرسة الثانية أسسها وتزعمها موريس هوريو.
وتهتم مدرسة المرفق العمومي بالهدف من العملية الإدارية، والقانون الإداري بالنسبة لها هو قانون المرافق العامة التي تهدف لخدمة المصلحة العامة. فحيثما يوجد مرفق عمومي فإن نشاطه يعتبر إداريا ويؤطره القانون الإداري، وتخضع كل منازعة تتعلق به لإختصاص القضاء الإداري، الذي يطبق للفصل فيها قواعد القانون الإجاري.

v   مدرسة السلطة العامة:
تهتم مدرسة السلطة العامة بالوسائل بدل الأهداف. فالمرفق العام في نظر أنصارها لا تطبق عليه قواعد القانون الإداري إلا إذا تم تسييره بأساليب السلطة العامة، بحيث يكون استعمال أسلوب التسيير العمومي في إدارة المرافق العامة حاسما في اعتبار النشاط الذي تباشره هذه المرافق نشاطا إداريا، ويطبق عليه بالنتيجة القانون الإداري، كما تدخل المنازعات المتصلة بهذا التسيير في اختصا القاضي ،  كما تدحل المنازعات المتصلة بهذا التسيير في اختصاص القاضي الإداري الذي يطبق عليها قواعد  القانون الإداري

ثانيا: الإتجاه المختلط

يتأسس هذا الإتجاه  على الجمع بين معياري المرفق العمومي والسلطة العامة إذ يتم تحديد نطاق تطبيق القانون الإداري إذا كان النزاع يتعلق بنشاط قام به مرفق عمومي، او يستهدف خدمة نشاط مرفقي، وتستخدم في هذا النشاط أساليب القانون العام.
وينطوي المعيار المختلط على تطبيق القانون الإداري كلما تعلق الأ بنشاط تمارسه الإدارة بما لها من سلطة آمرة من أجل تسيير مرفق عام تتوخى منه إشباع حاجات عامة، ويرجع إتفاق معظم الفقهاء على هذا المعيار المختلط إلى التطورات والتحولات التي تعرفها أدوار الدولة.

الفقرة  الثانية : الإجتهادات القضائية

يتميز القانون الإداري عن القانون الخاص بإعتباره ولد من رحم الإجتهاد القضائي ، بحيث أن القانون الإداري كمبدأ عام قانون هو قانون قضائي بإمتياز وقانون في معظم قواعده غير مدون. 
وفي هذا الصدد سنتناول نماذج عن أهم الأحكام المؤسسة لظهور وإستقلال القانون الإداري في فرنسا،
قبل أن نتطرق إلى تناول دور القضاء الإداري المغربي في مبادئ وقواعد القانون الإداري

أولا:الأحكام القضائية المؤسسة لظهور القانون الإداري في فرنسا

أسس لظهور القانون الإداري بشكله المعاصر مجموعة من الأحكام والإجتهادات القضائية بفرنسا صادرة عن كل من محكمة التنازع ومجلس الدولة.

v   حكم بلانكو:
أصدرت محكمة التنازع في قضية بلانكو بتاريخ 8 فبراير 1873 هذا الحكم الذي يعتبر علامة بارزة في تاريخ القانون الإداري.
وقد أرست محكمة التنازع بموجب هذا الحكم المبادئ التالية:
1-  مسؤولية الدولة عما يسببه نشاطها من أضرار وذلك بعد كان المبدأ السائد قبل صدور حكم بلانكو هو عدم مسؤولية الدولة بإعتبارها صاحبة السلطة العامة والسيادة عملا بالقول المأثور The king can do no wrong  الملك لا يخطئ.
2-  الإسرار على أن تكون هذه المسؤولية محددة من حيث حالات إقرارها من حيث شروط إعمالها فمسؤولية الدولة ليست عامة وليست مطلقة.
3-  عندما يتعلق الأمر بنزاع أحد أطرافه هيئة إدارية – وهي حالة مصنع التبغ في النازلة – فإننا نكون أمام منازعة إدارية يختص بالنظر فيها مجلس الدولة كأعلى هيئة قضائية إدارية.
4-   عندما يكون النزاع متعلقا بنازلة إدارية فإنه يتعين إستبعاد تطبيق قواعد القانون المدني لعدم ملاءمتها لعمل الجهاز الإداري الذي يسير مرفقا عموميا وتطبيق قواعد خاصة تستجيب لطبيعة نشاط المرفق.   

v   حكم كادو: يقرر الولاية النزاعية العامة لمجلس الدولة
بتاريخ 13  شتنبر 1989، أصدر مجلس الدولة حكم مبدأ في قضية المهندس كادو.
إن حكم كادو وإن كان في الظاهر قليل الأهمية، خاليا من المبادئ العامة إلا أنه كان في الحقيقة خطوة رئيسية في تطور القضاء الإداري، حيث دق آخر مسمار في نعش ما كان يسمى "بنظرية الوزير القاضي"، واحتفظ مجلس الدولة بموجبه لنفسه بصفة القاضي الإداري ذي الولاية العامة أي الإختصاص بجميع القضايا الإدارية.

 ثانيا : دور القضاء الإداري المغربي

§  يلعب القضاء الإداري المغربي دورا مهما ورائدا في مجال حماية حقوق وحريات المواطنين.
§ إحداث المحاكم الإدارية ومن بعدها محاكم الاستئناف الإدارية شكل حدثا فارقا في تاريخ القضاء المغربي، على اعتبار الثغرات التي قامت هذه المحاكم بملئها،
§ أيضا على مستوى هامش التحرك الممنوح لقضاة هاته المحاكم حيث  أن القاضي عندما لا يجد نصا يعتمد عليه في حل نزاع مطروح على أنظاره، يلجأ إلى وضع قاعدة تحول دون إنكار العدالة مستلهما روح هذه الأخيرة.
§  فالقضاء الإداري عندنا وإن كان لا يخترع المبادئ فعلى الأقل يحمد له أته يكشف تطبيقاتها، ويفور بموجبها ضمانات للأفراد وضوابط لجسن سير العمل الإداري.
من خلال ما سبقت دراسته من ظروف وعوامل نشأة وتطور القانون الإداري في بعض الأنظمة المقارنة، يحق لنا التساؤل حول علاقة وجود القانون الإداري بفعالية ونجاعة الإدارة في أداء المهام المنوطة بها ؟
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات