القائمة الرئيسية

الصفحات

تفريد الجزاء الجنائي

تفريد الجزاء الجنائي
تفريد الجزاء الجنائي


مقدمـــة

يعتبر تفريد الجزاء من المواضيع الفلسفية ذات الطابع القانوني التي استقطبت اهتمام الفقهاء، بالنظر إلى الأهمية العلمية والعملية التي حظي بها هذا المبدأ، وما يؤكد هذا الطرح أن مبدأ التفريد أحدث في الفقه الجنائي ثورة قلبت مفاهيمه وحولت تركيزه من الجريمة إلى المجرم الذي أصبح قبلة لنظريات وأفكار جل الفقهاء الذين سارعوا إلى البحث عن أنجع وسيلة كجعل العقوبة ملائمة لشخصية المجرم، الذي لم يعد ينظر إليه كمذنب يجب معاقبته للانتقام منه، وإنما كمريض اجتماعي يجب تخليصه من مرضه وإعادته سليما إلى المجتمع ومستعدا للتعايش فيه.[1]
ذلك أن التطور الذي لحق بوظيفة العقوبة، بحيث تم الانتقال من وظيفة الردع إلى وظيفة إعادة الإدماج في المجتمع، أدى إلى ثورة قانونية وفلسفية وحقوقية في القرن الثامن عشر توجت بمبدأ تفريد الجزاء[2]، الذي لم يكن ظهوره سوى رد فعل على النظام الذي كان يعرف بنظام العقوبات التحكمية، والذي كان القاضي فيه يملك الحرية المطلقة في تحديد مدة العقوبة، وفي أغلب الأحيان يملك أيضا صلاحية تحديد طبيعتها. لكن بعد ظهور هذا المبدأ أصبحت العقوبات تعرف نوعا من المرونة، حيث خول المشرع للقاضي إمكانية التدرج بين حدين أقصى وأدنى، كما خول له إمكانية النزول عن الحد الأدنى بسبب الأعذار والظروف المخففة، كما سمح له بتجاوز الحد الأقصى عن طريق التشديد.[3]

والجدير بالذكر، أن الأنظمة الجنائية الحديثة تبنت هذا المبدأ، ولم يشذ عن ذلك المشرع المغربي الذي بادر إلى تخصيص الباب الثالث من الكتاب الثاني من مجموعة القانون الجنائي لتفريد العقاب وذلك بمقتضى الفصول من 141 إلى 162. 
وفي نفس السياق، أخذ المشرع المغربي بنظام العقوبة التخييرية في جرائم كثيرة من أجل تمكين القاضي من سمة التفريد على أمل وجه، بحيث ترك له حق اختيار العقوبة الملائمة للمتهم، فحينا تكون العقوبة متراوحة بين حدين أدنى وأقصى يكون للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة، وحينا يتم تغليظ العقوبة بسبب الظروف المحيطة بالجريمة أو بشخصية المجرم.[4]
وحسبنا من باب التوضيح، أن هناك الكثير من المفاهيم التي تتشابه مع مبدأ التفريد، مما يحمل على القول أنها قد تثير إشكاليات حقيقية في التمييز بينها وبين مبدأ التفريد، الشيء الذي يقتضي منا الوقوف عندها ولعل من أهم هذه المفاهيم نجد:
التجنيح القضائي: ويقصد به تغيير صفة جريمة معينة من وصف أشد إلى وصف أقل من حيث العقوبة المنصوص عليها في القانون، كاعتماد تكييف الضرب والجرح العمديين مع سبق الإصرار والترصد عوض اعتماد محاولة القتل العمد[5]، ويختلف التجنيح عن مبدأ التفريد في كون أن الإجراء الأول لا يتخذ إلا من طرف النيابة العامة أو قاضي التحقيق، أما الثاني فهو يتخذ من طرف كل من المشرع وقاضي الموضوع والإدارة المكلفة بتنفيذ العقاب. كما يختلف الإجراءان أيضا من حيث المصدر الذي يرجع في التجنيح للعمل القضائي، في حين يكون مصدر التفريد إما المشرع بنص قانوني أو السلطة التفريدية لقضاة الموضوع أو الإدارة التي تتكلف بالإشراف على تنفيذ العقوبة على الجاني. ويتفقان في التشديد الذي تتميز به بعض العقوبات.
إعادة التكييف: ومفاده إعطاء الوصف الحقيقي للفعل الجرمي سواء أدى ذلك إلى اعتماد وصف من نفس المستوى أو جريمة مماثلة، أو من وصف أخف إلى آخر أشد أو العكس، وهذه الإمكانية موكولة صراحة لغرفة الجنايات حسب نص المادة 432 من ق.ج.[6]
أما التفريد فهو تدخل كل من المشرع والقاضي والإدارة لجعل العقوبة مناسبة لدرجة خطورة الجريمة وشخصية المجرم.[7]
أما بالنسبة لفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية، فتتمحور حول الحدود، القصاص، والتعازير، فالحدود والقصاص هي محددة العدد وعقوباتها مقررة بنص شرعي، وبالتالي لا يمكن الزيادة أو النقصان أو التعديل فيها، بينما التعازير فهي عقوبات ''غير محددة العدد''، بحيث للقاضي وحده الحق في تحديد العقوبة الملائمة للجاني بهدف إصلاحه، وفي هذه الحالة يمكننا الحديث عن وجود سلطة يتمتع بها القاضي وتكون والحالة هذه سببا في إعمال مبدأ التفريد.[8]
تأسيسا على ما سبق يظهر لنا بجلاء ووضوح أن موضوع تفريد الجزاء يضطلع بأهمية بالغة، لأنه من المواضيع العلمية والعملية الدقيقة والشائكة التي تطرح العديد من الإشكاليات التي تقتضي الإجابة عنها لفهم فلسفة المشرع تجاه هذا الموضوع، كما تبرز أهمية تفريد العقوبة في أن تطبيقها لا ينبغي أن يكون عبثا فلا بد أن يكون ذا مردودية حتى يتحقق الغرض المنشود المتمثل في إصلاح الجاني وحماية المجتمع من أفعاله الإجرامية في المستقبل، ولن يتأتى ذلك إلا بتمكين القاضي الزجري بسلطة تقديرية واسعة لكي يؤدي رسالته النبيلة المتمثلة في تطبيق الجزاء العادل على الجاني.
وبخصوص مبدأ الشرعية: فيبدو لأول وهلة وجود تعارض بينه وبين العقاب وتفريد الجزاء، لكن في الحقيقة الحديث عن التفريد لا يمكن فصله عن سلطة القاضي التقديرية إذ يعتبر الوسيلة الشرعية للوصول بالمبدأ إلا غايته.
فإذا كان مبدأ الشرعية يضع الأفراد في مأمن من تصرفاتهم، بحيث يعرفون مسبقا ما يحق لهم إتيانه وما يمتنع عليهم فعله، فإن الاعتراف للقاضي بسلطة تقديرية أصبح أمرا لا مفر منه، بعدما اتضح أن نصوص القانون إذا ما طبقت حرفيا قد تهدر مبدأ المساواة أمام القانون، تلك المساواة التي تعني في حقيقتها شيئا أسمى من تطبيق القانون بطريقة آلية على جميع المجرمين مهما كانت ظروفهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
يقوم التفريد إذن بأنسنة العقوبة، وإلا عد القاضي آلة، وخوفا من أن يتجاوز حدود هذه السلطة فقد قيده المشرع بمجموعة من الضوابط.

المبحث الأول: الأحكام العامة مبدأ تفريد الجزاء

المطلب الأول: ماهية مبدأ تفريد الجزاء:

تقتضي دراسة هذا المطلب الوقوف عند كل من تعريف مبدأ التفريد في فقرة أولى، وخصائصه في فقرة ثانية، وتقييمه في فقرة ثالثة، باعتبار ذلك بمثابة الخيط الرابط الذي يقربنا من هذه المؤسسة.

الفقرة الأولى: تعريف مبدأ التفريد

لقد كان للفقيه ''رايموند سالي'' السبق في تبني هذا المبدأ، وهو ما ترجمه في كتابه الشهير (L'individualisation de la peine) سنة 1898، إذ عالج فيه مشكل كلائمة الجزاء لكل فرد على حدة، ومنذ ذلك الحين أصبح مبدأ تفريد العقوبات مبدأ منشرا في القانون الجنائي الحديث.
وما يؤكد ذلك أن هناك مجموعة من الفقهاء قاموا بتعريف هذا المبدأ، ومن بين التعاريف التي نراها جديرة بالتأييد تعريف الدكتورة لطيفة المهداتي التي عرفت التفريد في رسالتها تحت عنوان ''سلطة القاضي التقديرية في فريد الجزاء'' بأنه: ''وسيلة فعالة للوصول بالعقوبة إلى غايتها المثلى وهي إصلاح الجاني من جهة وتحقيق العدالة من جهة أخرى''.[9]
كما عبر عنه  بعض الفقه العربي بقوله:  أن '' التفريد يجعل العقوبة من حيث نوعها ومقدارها وكيفية تنفيذها ملائمة لظروف من تفرض عليه، فتفريد العقاب هو تنويعه ليلاءم حال كل فرد يراد عقابه''.[10]
أيضا هناك تعريف آخر لا يقل أهمية عن سابقه الذي عرف التفريد بأنه ''وسيلة أساسية تمكن من ملائمة العقوبة لكل مجرم على حدة، وذلك عن طريق الأخذ بعين الاعتبار الظروف المادية التي ارتكبت فيها الجريمة والظروف الشخصية المتعلقة بالمجرم''.[11]
وعموما، يمكن القول بأن تفريد الجزاء يعني أن تكون العقوبة متناسبة مع الجريمة، حيث أن هذا التناسب هو الذي يجعل من الأولى جزاءا عادلا للثانية.
فالتفريد كما يلاحظ يرتكز على اعتبارين: يتعلق الأول بشخصية الجاني واستئصال عوامل الإجرام منه، ولذلك وجب أن ينظر إلى العقوبة كوسيلة لإصلاح الجاني في المستقبل، أما الاعتبار الثاني فيكمن في كون العدالة الجنائية تقتضي المساواة بين الجميع، لذلك وجب تطبيق عقوبات مختلفة على أفراد مختلفين من ناحية مسؤوليتهم وشخصيتهم، فالجريمة وإن كانت واحدة إلا أن الأسباب والظروف والمبررات تختلف باختلاف الأفراد.[12]

الفقرة الثانية: خصائص مبدأ التفريد وأنواعه

يمكن استخلاص خصائص التفريد من جملة التعاريف التي أعطيت لهذه المؤسسة، ولعل من أهمها:
إصلاح الجاني: فالتفريد كضرورة عملية تتطلبها السياسة الجنائية الحديثة تهدف قبل كل شيء إلى إعادة التأهيل الاجتماعي للمجرم[13]، وهذا المنطلق فرضته السياسة العقابية الحديثة التي غيرت النظرة إلى وظيفة العقوبة، بحيث أصبحت تهدف أساسا إلى تحقيق تأهيل وإعادة المحكوم عليه إلى الحياة الشريفة في المجتمع.[14]
تجسيد عدالة العقوبة: فتحقيق العدالة يعد من أهم الأغراض التي ينبغي أن يستهدفها العقاب، وتحقيق العدالة كغرض من أغراض العقوبة يجسده مبدأ التفريد الذي يعني التناسب بين الجريمة والعقوبة، أي بين الفعل غير المشروع الذي ارتكبه الجاني وبين قدر الإيلام الذي يخضع له لقاء اقتراف هذا الفعل، فتحقيق العقوبة للعدالة بين الجناة يعني أن ينال كل منهم من العقاب جرعة تتناسب مع دوره في الجريمة وظروفه الخاصة.
تنوع المصدر: يتميز مبدأ تفريد الجزاء عن غيره من المبادئ الجنائية بكونه ينفرد بخاصية تنوع المصدر، فنجد أن المشرع مبدئيا هو الذي يحدد العقوبة تطبيقا لمبدأ شرعية التجريم والعقاب، كما يقدر خطورة الجريمة ويحدد لها تبعا لذلك الجزاء الذي يلائمها، وهذا ما يسمى ''بالتفريد التشريعي''، والقاضي هو الذي يتولى اختيار العقوبة المناسبة لحال الجاني وتطبيقها عليه في حدود السلطات أو الصلاحيات التي يعترف له بها المشرع، وهذا ما يسمى ''بالتفريد القضائي''، كما تختص الجهة الإدارية المناط بها قانونا مهمة الإشراف على المؤسسات العقابية بتصنيف المحكوم عليهم وتطبيق نظامي الإفراج المؤقت والعفو وغيرها من الصلاحيات التي تمارسها في إطار ''التفريد الإداري أو التفريد التنفيذي''، وهكذا يظهر أن مصادر التفريد متنوعة تتجلى أساسا في التفريد التشريعي والقضائي والإداري التنفيذي.

1- التفريد التشريعي: هو الذي يتولاه المشرع محاولا أن يجعل من العقوبة جزاء يتناسب ويتلاءم مع الخطورة المادية للجريمة من ناحية، لما تتضمنه الجريمة من خطر على المجتمع أو ما يمكن أن تحدثه من ضرر، ومع الظروف الشخصية للجاني، وذلك من خلال ما يمكن أن يتوقعه أو يتنبأ به وقت وضع نص التجريم والعقاب.

2- التفريد القضائي: من أهم أنواع التفريد، وذلك لارتباطه الوثيق بالعقوبة، نوعها، ومدتها، وعليه فإن القاضي في نظر اتجاه فقهي أول يجب إعطائه سلطة تقديرية واسعة لتحديد العقوبة المناسبة لظروف المتهم، وذلك بجعل المشرع العقوبة بين حدين: حد أدنى وآخر أقصى، مع إمكانية إقرار عقوبات موازية متعددة يختار منها القاضي العقوبة الملائمة. أما الاتجاه الثاني فيوسع من مفهوم التفريد القضائي بحيث يحرر سلطة القاضي التقديرية من قيد الحدين الأدنى والأقصى، ويجعله حرا في اختيار الجزاء المناسب مع الأخذ بعين الاعتبار كل من جسامة الجريمة وردود فعل الضمير الجماعي.
والجدير بالذكر أن جل التشريعات تأخذ بالاتجاه الأول، وذلك تخوفا من تحكم القضاة، كما أن التفريد القضائي لم يعد محصورا في مجال تحديد نوع العقوبة ومدتها، بل امتد إلى تحديد نظام الجزاء الذي كان من اختصاص الجهاز التنفيذي، ومن بين التشريعات التي أخذت به نذكر التشريع الفرنسي الذي يسمح للقاضي بأن يعدل من حكمه أثناء تنفيذ العقوبة حسب ظروف الجاني، وكذلك المشرع المغربي الذي نحى نفس المنحى بأن أحدث مؤسسة ''قاضي تطبيق العقوبة'' (المادة 596 من ق.م.ج)، الذي عهد إليه في كل محكمة ابتدائية باختصاص تتبع تنفيذ العقوبة بكيفية تسمح بإعادة إدماج المحكوم عليه في المجتمع، ناهيك عن (الفصل 141 من مجموعة ق.ج)، الذي خول المشرع بمقتضاه للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتقديرها في نطاق الحدين الأدنى والأقصى مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية وشخصية المجرم من ناحية أخرى.[15]

3- التفريد الإداري: فإنه يكون في مرحلة تنفيذ العقوبة، حيث من المفترض أن تجري المعاملة العقابية للمحكوم عليه وفقا لظروفه الشخصية وكذلك وفقا لما يقتضيه تأهيله، كما يقول ''سالي'' في هذا الصدد: ''إن الإدارة السجنية تقوم بعمل تربوي وعمل تقويمي''.
ولتحقيق هذا المبتغى فإن الدور المنوط بالإدارة العقابية ينبغي أن ينصب على دراسة شخصية المحكوم عليه دراسة وافية، ومعاملته وفقا لنتائج تلك الدراسة، وذلك بغض النظر عن طبيعة العقوبة المحكوم بها. ولتسهيل عمل الإدارة العقابية في القيام بهذا الدور نجد أن المشرع يعطي لها الحق في اتخاذ بعض الإجراءات ومن بينها الإفراج الشرطي عن المحكوم عليه بشرط أن يستوفي ثلاثة أرباع مدة العقوبة. وقد يصل الأمر إلى حد العفو عنه من العقوبة كلها أو بعضها أو استبدالها بعقوبة أخرى أخف منها.
وصفة القول، أن الأنواع الثلاث من التفريد تلعب أدوارا مهمة في مصير تفريد الجزاء، فمرحلة التفريد القانوني لها أهميتها الخاصة، وكذلك مرحلة التفريد القضائي الحاسمة في تقرير مصير المحكوم عليه، أما التفريد التنفيذي فهو الآخر لا يقل أهمية عن سابقيه، حيث يأتي في نهاية المطاف، ليعول عليه في تحقيق غاية المشرع والقاضي في إصلاح الفرد وإعادة إدماجه في المجتمع من جديد.

الفقرة الثالثة: تقييم مبدأ التفريد

انقسم الفقه بين معارض لمبدأ التفريد ومؤيد له.
فبالنسبة للاتجاه الأول المنتقد لمبدأ التفريد فقد استند إلى ثلاث نقط أساسية:

1- أن المبدأ من شأنه أن يشجع على الإجرام، وذلك من زاوية تخفيف العقوبة المستحقة، لكن هذا غير وارد، لأن العبرة من تفريد العقاب هي ملائمة العقوبة لشخص الجاني وخطورته على المجتمع مما يستدعي أحيانا تشديد العقوبة.

2- أن التفريد مبدأ غير عادل لعدم مساواته بين الناس، لكن هذا غير صحيح، فمرتكبي نفس الجريمة غير متساوين في مسؤوليتهم وفي طبائعهم ونفسياتهم.

3- أن المبدأ لا أهمية له إذا كانت السلطة الإدارية هي الأخرى لها حق التفريد أثناء تنفيذ العقوبة، وهو مس بسلطة القرار القضائي. لكن السياسة الجنائية ترفض التحليل الخاطئ، فوضعية المتهم لا يمكن بلورتها بصورة نهائية في مرحلة الحكم لأنها تخضع لقانون التطور وقد يكون التعديل أو التغيير منصوصا عليه في القانون وفي قرار الحكم ذاته.[16]        

هذه إذن مختلف الانتقادات التي وجهت لمبدأ التفريد، لكنها دون فائدة سيما إذا أحسن تطبيق هذا المبدأ وفق الشروط التالية:
- تنوع العقوبات: ضرورة وضع سلم تتدرج فيه العقوبات تدرجا كميا ونوعيا.
- معرفة شخص المتهم: ضرورة تعرف القاضي على شخصية المتهم معرفة شاملة تسمح له بتفريد العقاب.
- توسيع سلطة القاضي التقديرية، دون السقوط في التحكم، وذلك بالالتزام بمعايير قانونية تحمي الجاني.

المطلب الثاني: موقف المدارس الفقهية والشريعة الإسلامية من مبدأ التفريد

تمهيد:

كان لانتشار وسائل التعذيب الهمجية في أوربا وتطبيقها على المتهم قبل المحاكمة وبعدها والتفنن في الانتقام والتنكيل بالمتهم أثناء تنفيذ العقوبة أثره في إيقاظ ضمير بعض المفكرين والفلاسفة الأوربيين الذين وجهوا كتاباتهم لنقد أساليب التجريم والتحقيق والمبالغة في العقاب ومهاجمتها لتعارضها مع آدمية الإنسان المجرم وحقوقه الأساسية التي لا تختلف عن حقوق غير المجرمين، وكان على رأس هؤلاء المفكرين نخبة من فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكريها أمثال ''مونتيسكيو'' و''فولتير'' و''جون جاك روسو''.
وقد مهدت أراء هؤلاء الفلاسفة لظهور المدارس العلمية التي تهتم بدراسة مشكلة الجريمة وبصفة خاصة سياسة العقاب من حيث أساسه وأغراضه.

الفقرة الأولى: موقف المدارس الفقهية

أولا: المدرسة التقليدية:

مؤسس هذه المدرسة هو ''بكاريا'' (Beccaria) الإيطالي، ومن أهم روادها ''بنتهام'' (Bentham) الإنجليزي، و''فيورباخ'' (Foerback) الألماني، وقد ظهرت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكان من أهم ما أخذته على النظام الجنائي القائم آنذاك، مبالغته في القسوة واستبداد القضاة وظلمهم وانعدام المساواة في العقاب الجنائي بين مرتكبي نفس الجريمة لأسباب طائفية، وكان هدف رجالات هذه المدرسة يرمي إلى نزع السلطات التي يتمتع بها القاضي ويتحكم بها في رقاب الأفراد، وتخفيف العقوبات، وإقرار المساواة بين كل أفراد المجتمع فيما يتعلق بالمسؤولية والعقاب، ولذلك نجد رمز العدالة الجنائية عند أتباع هذه المدرسة، هو عبارة عن امرأة تضع على عينيها عصابة سوداء، وتحمل في إحدى يديها ميزانا، وفي الأخرى سيفا، فتبدو وكأنها تزن الجريمة في الميزان وتعاقب عليها تبعا لدرجة جسامتها دون أن تأخذ بعين الاعتبار مرتكبها لأنها معصوبة العينين فلا تراه.[17]
ويمكن إجمال الملامح العامة لفكر هذه المدرسة فيما يلي:

1-    ارتباط العقوبة بجسامة الفعل الواقع بصرف النظر عن شخصية الجاني، فالمدرسة التقليدية لا تحفل في تقديرها لمسائل العقاب بشخص المجرم مهما انطوت عليه شخصيته من جوانب. وقد ترتب على ذلك عدم التمييز بين المجرم لأول مرة والمجرم المحترف، فكلاهما يخضع لنفس العقوبة متى كان الفعل الذي ارتكباه متساويا من حيث الجسامة.

2-    اعتبار المنفعة هي هدف كل عقوبة. وفي هذا المعنى يؤكد ''جيرمي بنتهام'' (Jeremie Bentham) أنه لا محل للعقاب إلا إذا كان لتحقيق مزية إيجابية لأن ما يبرر العقاب هو منفعته أو ضرورته.

3-    التأكيد على حرية الاختيار التي يتمتع بها الجاني إذ يرتكب جريمته، فالمجرم في فكر المدرسة التقليدية هو شخص يتمتع بحرية كاملة وإرادة غير منقوصة، بل يمكن القول وفقا للفقه التقليدي أن الأفراد متساويين جميعا في حرية الاختيار، الأمر الذي يوجب المساواة بين جميع الجناة ويرفض بالتالي أي صدى لمبدأ تفريد العقوبة، فالإنسان إما مسؤول مسؤولية كاملة وإما عديم المسؤولية كالمجنون والصغير.

4-    الانحياز الكامل لمبدأ الشرعية فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص القانون، وقد تقرر هذا المبدأ في وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن التي صدرت في فرنسا سنة 1789 (المادة الثامنة)، وتولي المدرسة التقليدية أهمية خاصة للتشريع، فالتشريع هو المصدر الوحيد للتجريم والعقاب، وله في ذلك الأولوية على كل ما عداه من مصادر، بل إنه يحظر اللجوء للقياس داخل التشريع نفسه.

5-    وظيفة العقوبة هي الردع والزجر، أي ردع الجاني عن تكرار فعلته وزجر غيره عن الإتيان بمثلها، فالعقوبة إنما توقع وفقا لموازنة عادلة للحساب بين فاعلي الإثم عن تدبر من جهة وبين مجتمع وقع عليه الضرر وثار غضبه من جهة أخرى.[18]

وكتقدير للسياسة العقابية لدى هذه المدرسة يلاحظ ما يلي:

1-    أنها أرست مبادئ تعتبر ثورة في الفكر والسياسة الجنائية المعاصرة، وخاصة مناداتها بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، والقضاء على الاستبداد والتحكم من جانب القضاة.

2-    خففت قسوة العقوبات وصور التعذيب سواء قبل تنفيذ العقوبات أو أثناءها.

3-    سعت إلى تحقيق المساواة أمام القانون دون تمييز بين طبقات المجتمع.

ورغم ذلك فإن هناك بعض الانتقادات التي وجهت إلى هذه المدرسة تتمثل فيما يلي:

1-    مساواتها بين الناس في حرية الاختيار ومقدار العقوبة لاستحالة إثبات ذلك علميا، لأن الناس يختلفون من حيث التمتع بالحرية وفقدانها مما يستوجب تفاوتهم في المسؤولية.

2-    أغفلت شخصية الجاني والظروف التي أحاطت به والاهتمام بالفعل الإجرامي فقط وما يترتب عليه من ضرر، والحقيقة أن درجة مقاومة الأفراد للدوافع الإجرامية ليست واحدة بل متفاوتة من شخص لآخر.[19]

ومن خلال ما سبق يمكن القول أن صدى التفريد عند المدرسة التقليدية منعدم، ذلك أن أفكار هذه المدرسة جاءت للرد على فظاعة ووحشية نظام التحكم الذي كان يتسم به القانون الجنائي آنذاك. فقد كان همها الوحيد هو القضاء على تعسف القاضي من جهة وإلغاء العقوبات التحكمية من جهة أخرى.[20]

ثانيا: المدرسة التقليدية الجديدة أو المدرسة التوفيقية:

شكلت تيارا يمكن اعتباره تقليديا كذلك، لأنه ينخرط في الإطار النظري العام للمدرسة التقليدية، لكنه في نفس الوقت تيار جديد ومخالف، لأنه شكل رد فعل ضد صلابة نظرية بكاريا وبنتهام وفيورباخ. وبهذا الصدد فقد قدم هذا التيار تنظيرا جديدا للمسؤولية وعلاقتها بالحرية. وقد ذهب أنصاره إلى أن القول بتأسيس المسؤولية على فكرة الحرية، يؤدي منطقيا إلى قياس المسؤولية على ما كان يتمتع به الشخص من حرية عند ارتكابه للجريمة، إذ ليس من المعقول افتراض تساوي الحرية عند الجميع، ولا يقبل أن تطبق نفس العقوبة على أشخاص تختلف مسؤوليتهم.[21] ويعتبر ''ريموند سالي'' (Saleilles Reymond) المؤسس الفعلي لهذه المدرسة وأحد المجددين البارزين للنظرية التقليدية.
ويشكل بذلك اتجاه المدرسة التقليدية الحديثة في جوهره محاولة للإتيان بجواب توفيقي -لذا سميت المدرسة التوفيقية- للتساؤل الأزلي هل الإنسان مخير أم مسير؟ فهي تقر بأن حرية الاختيار هي أساس المسؤولية الجنائية، ولكنها لا تقول بأن هذه الحرية مطلقة ولا متساوية عند جميع الأفراد كما تقول بذلك المدرسة التقليدية الأولى.
وإذا كان من شيء قدمته المدرسة التقليدية الجديدة للدراسات الجنائية فهو محاولتها إقامة نوع من التوازن بين الحرية والجبرية، وذلك بتسليطها الضوء عند توقيع العقوبة على شخصية الجاني وصفته الخطرة بدل النتيجة الإجرامية، وهذا ما دعا أنصارها إلى التشبث بضرورة تقرير حدين أعلى وأدنى للعقوبة، والدفاع عن مبدأ تفريد العقوبة بتمكين القاضي من تمتيع الجاني بظروف التخفيف بحسب ما يراه من تفاوت في حرية الاختيار بين الجناة في ظروف النازلة.
وجدير بلفت الانتباه إلى أن أفكار هذه المدرسة قد أخذت بعين الاعتبار من طرف مشرعي القانون الجنائي في المغرب (قانوني 1953 و 1962) وفرنسا (قانون 1832)، وإيطاليا (قانون 1889)، وألمانيا (قانون 1870)، حيث ظهرت في تشريعات هذه البلدان مؤسسة ظروف التخفيف القضائية مكنت القضاة من سلطة تقديرية مهمة عند تفريدهم للعقاب، الذي يراعي فيها حتما الظروف الشخصية لمرتكب الجريمة.[22]
أما فيما يتعلق بالهدف من العقوبة فقد رأى أنصار المدرسة التقليدية الجديدة أن يجمعوا بين الردع العام والعدالة المطلقة،[23] لأن الجريمة شر والعدالة تقتضي أن يقابل الشر بشر مثله، لهذا كانت العقوبة عدلا، كما أن للعقوبة وظيفة أخرى هي منع وقوع الجرائم في المستقبل بما يحقق مصلحة المجتمع ومنفعته، فالعقوبة يجب أن لا تتجاوز ما هو عادل ولا أن تتجاوز ما هو نافع أو ضروري وإلا أصاب المجتمع ضرر أو أصاب أفراد المجتمع جرح لشعورهم بأن تحقيق العدالة لم يتحقق.[24]

ثالثا: المدرسة الوضعية أو الواقعية:

مؤسس هذه المدرسة هو الطبيب الإيطالي ''لمبروزو'' (Lambrozo) (1909-1836) ومن أقطابها كذلك أنريكو فيري (A.Ferri) (1929-1856) و''جاروفالو'' (Garovalo)، وتنعت طريقة أتباع هذه المدرسة في دراستهم للظاهرة الإجرامية بالواقعية، لأنها تتخذ من شخص الجاني مرتكب الجريمة محورا لاهتماماتها بدل أفعاله وتصرفاته المادية، التي إن هي دلت على شيء فإنها تدل على الخطر الذي يكمن في شخصه،[25] حيث اعتبرته مسيرا لا مخيرا، لكونه محاط بعدة عوامل مختلفة تجبره على ارتكاب الجريمة، وقد اهتم كل من ''فيري'' و''لمبروزو'' بإظهار هذه العوامل التي اعتبراها ثلاثة: عوامل عضوية ترتبط بالتكوين الجسماني والعيوب الخلقية كما شرحها ''لمبروزو''، عوامل مادية واجتماعية كما ركز عليها ''فيري''، فالتفاعل بين هذه العوامل هو الذي يخلق الجريمة عندهما، وقد انتقد ''جاروفالو'' وهو القطب الثالث لهذه المدرسة كلا من زميلية ''فيري'' و''لمبروزو'' واهتم بالعقوبة وأفصح أنها يجب أن تكون قاسية، ويترك مجال تقديرها للقاضي الذي يعرف المجرم.[26]
لهذا تتميز المدرسة الوضعية بخاصيتين برزت بهما عن المدرستين السابقتين.
الأولى: تصنيفها للمجرمين إلى أصناف أو طوائف مختلفة على أساس نتائج الأبحاث الأنتروبولوجية التي تكون قد تمت إما في السجون أو المحاكم أو غيرها من المؤسسات وهذه الطوائف من المجرمين خمس هي: المجرم بالطبيعة، المجرم المجنون، المجرم بالعادة، المجرم بالصدفة، والمجرم بالعاطفة.
أما الثانية فهي إنكارها، لصلاحية حرية الاختيار عند الفرد كأساس للمساءلة الجنائية، أخذا بمبدأ الجبرية أو الحتمية المطلقة، وهذه الميزة الأخيرة تجعل من المدرسة الوضعية مدرسة تختلف تمام الاختلاف عن المدرستين التقليديتين (الأولى والحديثة)، ذلك أنه إذا كانت الأخيرتان تجعلان من حرية الاختيار مطلقة كانت أم نسبية، أساسا للمسؤولية الجنائية، فإن المدرسة الوضعية أنكرت مبدأ حرية الاختيار بين الخير والشر، كأساس لهذه المسؤولية.[27]
فإذا كانت الجريمة ظاهرة مرضية كما يقول ''لمبروز''، فيجب ملاءمة العقوبة لجنس الداء أو المرض الجرمي الذي يتعين علاجه، وهنا تتجلى نظرية التفريد بالمعنى الحقيقي للكلمة، ذلك التفريد الذي لم يعد يهتم بالفعل المرتكب وبالتالي فهو يدع المسؤولية جانبا ويتجه إلى طبيعة الشخص وجرميته الكامنة والمضمرة ليبحث عن ملاءمة العقوبة لمتطلبات الإصلاح المعنوي لكل مجرم على حدة.[28]
ويبدو أن هذه المدرسة قد اهتمت بتفريد العقوبة تشريعيا وقضائيا وتنفيذيا، ذلك أنها ترى فيها وسلة اجتماعية لمكافحة الإجرام، فدور العقوبة هو الدفاع الاجتماعي، أما عن أغراض التدابير الاحترازية لدى هذه المدرسة فهي تتوجه إلى المستقبل ولا تنظر إلى الماضي التي تبقي فيه الجريمة فحسب، وذلك بوضع المجرم في حالة لا يمكن معها الإضرار بالمجتمع، ومن هنا يتضح أنه هذه المدرسة تولي عنايتها للردع الخاص وتغفل شأن العدالة والردع العام نتيجة لمبدأ حتمية الظاهرة الإجرامية[29].
وبالرجوع لمختلف التشريعات الجنائية الوضعية نلاحظ تأثر مشرعيها جزئيا بأفكار هذه المدرسة حيث تم الأخذ بنظام التدابير الوقائية أو الاحترازية، بالنسبة للأشخاص الذين لا يمكن مساءلتهم أدبيا، من الناحية الجنائية لتعذر الإسناد المعنوي للجريمة إليهم، بسبب الجنون أو عدم التمييز لصغر في السن، وبالنسبة لمحترف الإجرام والشواذ كما وقع الأخذ كذلك بمؤسستي وقف تنفيذ العقوبة ووقف الحكم النافذ (الإفراج الشرطي)...إلخ، وهذه حال فرنسا (قانون 1892) ومصر (قانون 1808) وإيطاليا (قانون 1889) والبرتغال (قانون 1892) والمغرب (قانون 1962).
هذا وإذا كانت التشريعات الوضعية لم تأخذ إلا جزئيا بأفكار المدرسة الوضعية أو الواقعية فمرد ذلك إلى:

أولا: اختلاف مؤسسيها أنفسهم في تحديد الأسباب المولدة للإجرام، فحين ركز ''لمبروزو'' على العوامل الخلقية وقال بضرورة استئصال المجرم بالطبيعة. حتى ولو قبل أن يرتكب أية جريمة، أنكر الفقيه ''أنريكو فيري'' ذلك وأعطى أهمية كبرى للعوامل السياسية والاقتصادية التي تجعل من الشخص مجرما.

ثانيا: نفي أتباع المدرسة الوضعية لحرية الاختيار نهائيا دون أن يبرهنوا على عدم وجود هذه الحرية بالفعل –مع أن الواقع يثبت العكس- جعل من الصعب أن تحتل المسؤولية الموضوعية المكانة التي احتلتها المسؤولية المعنوية القائمة على حرية الاختيار، فهكذا حاول المشرع السوفيتي (قانون 1927) طرح فكرة الاختيار نهائيا في تأسيس المسؤولية الجنائية، ليعتنق أفكار المدرسة الوضعية، وعوض تبعا لذلك العقوبات بتدابير الدفاع الاجتماعي –وهي تدابير وقائية- إلا أنه ما لبث وبسرعة أن أحل العقوبة مكانتها إلى جانب التدابير الوقائية وذلك بقانون 1936.

ثالثا: تقسيم المجرمين إلى طوائف خمس فيه نوع من التحكم ومخالفة للواقع، ذلك أن المجرم بالطبيعة أو بالفطرة والمجرم المجنون هما معا مسلوبي الإرادة، ولا يكون هناك أي معنى للتمييز بينهما عند المعاقبة، ولا معنى كذلك للتمييز بين المجرم بالصدفة والمجرم بالعاطفة إذ الأحكام التي يخضعان لها من حيث العقاب واحدة، كما أن ابتداع نظرية المجرم بالطبيعة لا أساس لها، سواء من الناحية العلمية أو الواقعية.[30]

رابعا: المدرسة الثالثة الإيطالية:

ظهرت على يد كل من ''أليمنا'' (Alimena) و''كارنفالي'' (Carnavale)، تأخذ بمبدأ الحتمية أو الجبرية وهي ذات طابع موضوعي، وتعترف أيضا بأهمية ودور التدابير الجنائية في تأهيل وتهذيب المجرم، علاوة على أخذها بالعقوبة الجنائية وما تحققه من ردع عام لأفراد المجتمع.

خامسا: الاتحاد الدولي للقانون الجنائي:

أمام تضخم نسبة عدد الجرائم، وازدياد أعداد المجرمين، تبين للمهتمين بالدراسات الجنائية عدم جدوى الانحياز كليا للجدل الدائر بين أنصار مذهب ''الحرية في الاختيار''، أو ''الجبرية'' في المسؤولية الجنائية، لذلك قامت مجموعة من فقهاء القانون الجنائي من جنسيات مختلفة وهم: ''هامل'' (Hamel) الهولندي، و''لست'' (List) الألماني، و''برنس'' (Prins) البلجيكي بتأسيس الاتحاد الدولي للقانون الجنائي، الذي عقد أول اجتماع له سنة 1889، أما عن موقف الاتحاد من الاتجاهات الفكرية السائدة آنذاك فهو موقف المحايد، فلا يناصر كلية نظرية الإنسان المخير، ولا الإنسان المسير، على اعتبار أن الانتصار لنظرية ضد أخرى، لا يقدم شيئا، ولا ينفع المجتمع الذي ينتظر من مفكريه ابتداء الطرق والوسائل التي تفيد بالفعل في كبح جماح الجريمة، وإيقاف زحف تزايدها، وعلى هذا الأساس اعترف أتباع الاتحاد بأن العقوبة تشكل أهم الجزاءات الجنائية، وبأن أغراضها تتنوع وتظهر في الردع بنوعيه تارة، وفي تحقيق العدالة تارة أخرى، وفي هذا وكما وهو ظاهر إتباع لأفكار الاتجاهات التقليدية، كما أخذوا في نفس الوقت بتصنيف المجرمين إلى طوائف، طائفة المجرمين بالصدفة، وطائفة المجرمين المرضى، وطائفة المجرمين المعتادين وهذا تأثر جزئي ولا شك من أتباع الاتحاد بالتقسيم السائد في المدرسة الوضعية للمجرمين.

هذا وفي سنة 1913 توقفت الاجتماعات التي كان يعقدها الاتحاد بسبب الحروب ووفاة مؤسسيه، إلا أنه في سنة 1924، تأسست في باريس جمعية تدعى ''الجمعية الدولية للقانون الجنائي'' تبنت مبادئ الاتحاد الدولي للقانون الجنائي، وإلى الآن والجمعية ما تزال نشيطة تعقد مؤتمراته دورية وتقوم بأبحاث على درجة عالية من الأهمية، وتقدم دراسات تهم القانون والعلوم الجنائية بصفة عامة[31].

سادسا: مدرسة الدفاع الاجتماعي:

سادت أفكار الاتحاد الدولي للقانون الجنائي القائمة على التوفيق بين مختلف الاتجاهات الفكرية المهتمة بمؤسستي التجريم والعقاب في فترة ما بين الحربين العالميتين، ومرد ذلك ولا شك هو عدم تقيد أنصار هذا المذهب ابتداء بأي اتجاه فكري معين، وبعد وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها قام المحامي الإيطالي ''كراماتيكا'' (Gramatica) بتأسيس مركز لدراسة الدفاع الاجتماعي، كان مقره في جنوب إيطاليا، وعمد في نفس الوقت إلى إصدار مجلة سماها ''مجلة الدفاع الاجتماعي'' لتنشر أفكاره التي سرعان ما انتشرت في أوربا بسرعة، ووقع الاتفاق على عقد أول اجتماع للحركة سنة 1947 في (Saint Rimo) لتظهر كحركة فكرية كان من أهم آثارها تأسيس ''الجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي'' سنة 1949 التي أصدرت بيانا عاما سنة 1955 تأخذ فيه بمبادئ وفلسفة مدرسة الدفاع الاجتماعي.
وعن الفلسفة التي تعتمدها هذه المدرسة، فهي كحركة فكرية تهتم أساسا بأسباب الجريمة -العوامل التي تؤدي إلى ظهورها- خارج مجال حرية الاختيار مبدئيا وهي في ذلك مثل المدرسة الوضعية، إلا أن التفسير الذي تعطيه لهذه الأسباب والعوامل مختلف عما أعطي له من طرف المدرسة الوضعية مع ما يرتبه ذلك من تباين في الرؤية للكيفية التي تمكن من مواجهة ومكافحة الجريمة كظاهرة اجتماعية، هذا التفسير للأسباب والعوامل وما ترتب عنه من اختلاف في سبل مكافحة الجريمة، أفرز اتجاهين فكريين أساسيين في هذه المدرسة.

أولا: اتجاه ''كراماتيكا'' (gramatica): نظرة هذا الفقيه للجريمة وللكيفية التي ينبغي أن تواجه بها يتلخص في نبذه لأية رابطة أو صلة بين الجبرية وحرية الاختيار وهما المبدآن اللذان قامت عليهما فلسفات المدارس أو الاتجاهات الفكرية السابقة، وبين الظاهرية الإجرامية، وإنما يربط بين قيام هذه الأخيرة بمختلف العناصر الاجتماعية والواقعية التي تؤدي إلى سلوك طريق الإجرام دون إهمال الاستعانة بباقي العلوم الإنسانية المختلفة ومن ثم كان السلوك الإجرامي عند ''كراماتيكا'' ما هو في حقيقته سوى انعكاس لحالة الجاني النفسية التي تعمل بكيفية معاكسة ومناهضة لنظم المجتمع، نتيجة توافر عوامل كامنة في هذا المجتمع، هي التي فرضت عليه طريق الإجرام بحيث لو وفر للفرد ما يجعل سلوكه متمشيا مع النظم التي فرضها المجتمع لما انحرف وسلك طريق الجريمة.
عند ''كراماتيكا'' إذن أن أسباب السلوك الإجرامي لا يجب بحثها على مستوى ظروف الجاني النفسية أو البيئية وحدهما وإنما يلزم تقصيها على مستوى مصدرها الذي هو الخلل أو الاضطراب الاجتماعي مما يستتبع القول بأن القضاء على هذا الخلل الاجتماعي يشكل الوسيلة المثلى لمكافحة الظاهرة الإجرامية التي لا بد وأن يتأثر وجودها بالإصلاح الاجتماعي الذي ينبغي أن يجعل من أهدافه توفير كافة الظروف التي تجعل أفراده من حيث السلوك محترمين لقانون التعايش داخل المجتمع، ذلك أن كل اضطراب أو خلل يظهر إما في أنظمة المجتمع الاقتصادية أو السياسية أو الأخلاقية...إلخ إلا وسيؤدي -ما لم يتدارك بالإصلاح- إلى ظهور مجموعة من المناهضين، أو المضادين للمجتمع -وهم المجرمون- تحت ضغط حالتهم النفسية.
وينتهي ''كراماتيكا'' إلى أن المناهضين للمجتمع –المجرمون- هم في حقيقة الأمر ضحايا هذا المجتمع الذي دفع بهم إلى طريق الجريمة، ومن ثم فلا يمكن القول بمساءلتهم جنائيا ولا بعقابهم تبعا لذلك، لأنهم غير مذنبين، ولا يمكن أن ينسب إليهم الخطأ، وإذا كان ''كراماتيكا'' لا يسلب المجتمع في نفس الوقت حقه في الدفاع عن نفسه ضد المجرمين وإنما بتدابير وقائية أو إصلاحية -تقويمية- تتخذ إما قبل وقوع الجريمة وإما بعدها.
فبالنسبة للتي تتخذ قبل إتيان الجاني للسلوك المجرم فهي من الأهمية بمكان عنده ويرى أن يكون موضوعها تقصي سبب الخلل الاجتماعي على اعتبار أن هذا الخلل هو مصدر الجريمة، وما على المجتمع إلا أن يصلح مختلف أنظمته الاجتماعية (تربوية، صحية، بيئية، إدارية، قانونية، اقتصادية...إلخ) التي تحكم تعايش مختلف أفراده.
أما التدابير التي تتخذ من طرف المجتمع بعد ارتكاب الجريمة، فيلزم أن يكون الهدف الوحيد -أو في الأقل الأساسي- منها هو إصلاح المنحرف وتقويمه حتى يتمكن من ممارسة حياته في المجتمع بكيفية سوية وعادية، بعد أن تطرد من نفسيته بذرة مناهضته للمجتمع والتي تكون قد تسربت إليها نتيجة الخلل في أنظمة المجتمع، وعلى ذلك فهذه التدابير اللاحقة لحدوث الجريمة يجب حين توقيعها على المجرم ألا تتعارض مع إنسانيته أو آدميته، فلا تمس كرامته أو حقا من حقوقه.
ثانيا: اتجاه ''مارك أنسل'' (Marc Ancel): نظرة هذا الفقيه الذي كان مستشارا بمحكمة النقض الفرنسية، إلى المبادئ التي تحكم سياسة التجريم والعقاب معتدلة، كما يتبين من المبادئ التي يعتنقها والتي تتلخص في:
الشرعية في التجريم.
حرية الاختيار كأساس للمساءلة الجنائية.
ضرورة إبقاء الجزاء بنوعيه (العقوبة والتدبير) كمؤسسة عقابية.
ضرورة تناسب الجزاء مع الخطأ.
ويسمى الاتجاه الذي أقامه ''مارك أنسل'' على المبادئ السابقة باتجاه أو مذهب الدفاع الاجتماعي الجديد وهو يتوخى -كما يقول أنسل- إلى إقرار سياسة جنائية إنسانية من خلال التركيز بعناية على شخص المجرم، والأخذ بعين الاعتبار الجانب ''الآدمي والإنساني فيه'' وهذا ما يستلزم اللجوء وعلى نطاق واسع إلى تفريد العقوبة والمعاملة الجنائية باختلاف شخصية المجرم، وفي هذه النقطة بالذات يتعرض أنسل إلى النقد على اعتبار أن عملية تفريد المعاملة الجنائية تبعا لشخصية الجاني ستؤدي لا محالة، ومن جديد، إلى تحكم القاضي الجنائي، وهذا ما فيه تهديد للحريات الفردية، إلا أن مارك أنسل يرد على هذا الانتقاد بأن مذهبه ''الدفاع الاجتماعي الجديد'' يؤمن بضرورة احترام الشخصية الإنسانية في العمق ولذلك فهو يندد بكل أنواع التسلط والجور من جهة، ومن جهة أخرى فإن أمر تحكم أو استبداد القضاة غير مطروح لأن مذهبه يؤمن من جملة ما يؤمن به الشرعية في التجريم والعقاب، بحيث لا يمكن مطلقا للقاضي المعاقبة عن فعل مجرم من طرف المشرع ابتداء وهذا ما يخفف فعليا من وطأة إمكانية تحكم القضاة وشططهم.
وكما هو واضح من المبادئ التي يقول بها مارك أنسل، فإنه لا يتفق مع ''كراماتيكا'' في إنكار الجزاء نهائيا، واستبدال العقوبة كليا بنظام التدابير الاحتياطية أو الإصلاحية، وذلك لأنه يؤمن بحرية الاختيار التي تقوم عليها المسؤولية الجنائية للفرد، ومع ذلك فلا ينبغي أن يفسر الأخذ من طرف مارك أنسل بحرية الاختيار كأساس لمسؤولية الفرد الشخصية من الناحية الجنائية، بأنه ليس من أقطاب مدرسة الدفاع الاجتماعي، بحيث يمكن تصنيفه ضمن فقهاء المدرسة التقليدية، ذلك أنه -أي أنسل- ولو قال بضرورة الجزاء، في صورتيه العقوبة أو التدبير، فإنه لم يؤسسه -أي الجزاء- على فكرة تحقيق العدالة أو على نفعية العقوبة بما تحققه من الردع العام أو الخاص، وإنما أسسه على اعتبار أنه أداة حماية للمجتمع بما يتيحه من إصلاح وتقويم للمجرم الذي سندمج بعد تطبيق الجزاء بنوعيه عليه في الحياة العادية للمجتمع ويهجر طريق الإجرام.

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أمرين:

الأول: وهو أن مفهوم الدفاع الاجتماعي لا يتحدد في مجرد البحث عن أفضل الوسائل التي تمكن المجتمع من الدفاع عن نفسه ضد المجرمين، وإنما الدفاع الاجتماعي كحركة فكرية، منذ نشوئها وفيما آلت إليه اليوم، أصبحت مرتبطة بفلسفة العقاب والعلوم الاجتماعية أو الإنسانية عموما، زيادة على ارتباطها الذي لا يقبل الانفصام عن الفقه الجنائي المتعلق بالجريمة والعقوبة وعلم الإجراءات الجنائية.

الثاني: وهو أن اختلاف ''كراماتيكا'' و''أنسل'' في تحديد مفهوم الدفاع الاجتماعي أدى بالجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي إلى إصدار بيانها الشهير الذي يتضمن الحد الأدنى من المبادئ التي ينبغي الاتفاق عليها لتحقيق الدفاع الاجتماعي، بحيث يكون كل موقف يتخذه أحد المنتسبين للجمعية خلافا لما وقع عليه الاتفاق المتضمن في الحد الأدنى لا يعبر عن رأي الجمعية، وإنما يعبر عن رأي صاحبه، فلا يكون ملزما للجمعية ولا منسوبا إليها.[32]

الفقرة الثالثة: موقف الشريعة الإسلامية:

سبقت الشريعة الإسلامية أفكار المدارس الجنائية التي سعت لتحديد أغراض العقوبة وأساليب تطبيقها، وحيث أن الخالق العظيم هو من خلق الإنسان ويعرف تكوينه فهو الأقدر على أن يقرر العقوبة الملاءمة لصالح البشرية، وفي الشريعة الإسلامية ثلاثة أنواع من الجرائم والعقوبات مفصلة فيما سيأتي. 

أولا: جرائم الحدود

هي السرقة والحرابة والزنا والقذف والردة وشرب الخمر، والبغي. وعقوباتها على النحو الآتي:
السرقة: قطع اليد.
الحرابة: القتل أو الصلب أو الإبعاد.
الزنا: الجلد مائة جلدة للعازب، والرجم حتى الموت للمتزوج استنادا للسنة النبوية.
القذف: ثمانون جلدة.
الردة: القتل.
شرب الخمر: الضرب بالنعال أو العصي أربعين جلدة، ورأي آخر قال ثمانين جلدة.[33]
ونظرا لكون جميع هذه العقوبات بدنية، قد يبدو لأول وهلة أنها قاسية إلا أن تطبيقها له ضمانات كبرى في التشريع الإسلامي، وأكبر ضمان في هذا الصدد هو المبدأ الذي قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال:''ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن كان للمسلم مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أيخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة''.[34]

ثانيا: جرائم القصاص

عقوبة القصاص مقررة في جرائم القتل العمد والجروح العمدية، بشرط أن يكون الجرح مما يمكن الاقتصاص به، دون إلحاق الضرر بالجاني أكبر من الضرر الذي ألحقه بالضحية. وجرائم القصاص وردت في القرآن الكريم والسنة الثابتة، وفي الاجتهاد أيضا، والمستوحى من مبادئ العدل والإنصاف التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية.
والقصاص معناه العدالة والمساواة في جرائم الأشخاص بين الواقع المادية للجريمة، وبين الجزاء الذي يناله الجاني، شريطة أخد الظروف والملابسات الشخصية للجاني ومدى مسؤوليته عن جريمته بعين الاعتبار. وجرائم القتل والجروح العمدية لا يقتص فيها إلا بإذن طلب ذلك المجني عليه أو ذووه في حالة وفاته، شريطة أن يبقى للإمام (السلطة العامة) حق العقاب على هذه الجرائم بالتعزير.

ثالثا: جرائم القصاص

استعمل فقهاء المسلمين مصطلح ''التعزير'' للدلالة على العقوبات أو الجزاءات التي لم تحدد في القرآن الكريم أو السنة النبوية.
وبالنسبة للعقوبات التعزيرية فإنها تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأزمنة، فيكون أمر تقديرها متروكا لرأي القاضي وفق المصلحة العامة، حسب مقدار الجناية والجاني والمجني عليه، ومراعاة الظروف الشخصية والعينية لكل شخص على حدة.
لذا هي قابلة للتغيير والتعديل لتساير الحقائق والزمان والمكان.[35]
أما عن مبدأ تفريد العقوبات في التشريع الجنائي الإسلامي فيمكن فيرى بعض الفقه أنه معمول به في الشريعة الإسلامية بأدق ما تكون هذه المعاملة، نظرا كلونها تدور حول ثلاثة دوائر سبق ذكرها (الحدود-القصاص-التعازير)، فالمشرع بالنسبة للحدود والقصاص قد حدد العقوبات (كما) و(نوعا) و(صفة) ولم يغفل في هذا التحديد شخصية الجاني لأنه لا يعاقب بمقتضاها إلا الشخص المكلف العادي المعتدل الذي لا تحيط به أو بجريمته ما يشكك في كمالها، وهذا ما يطلق عليه الفقه الوضعي التفريد القانوني أما التفريد القضائي فيظهر جليا في الدور المنوط بالقاضي حيث ينظر إلى المجرم نظرة شخصية كما ينظر إليه من حيث ما يحيط به من ظروف، فإذا استكمل القصاص أصبح لزاما عليه أن يحكم بالعقوبة المقدرة كما ونوعا وصفة ليس له أن يحيد عن هذا.
ويراعى التفريد حتى في المرحلة التنفيذية، فمن كانت عقوبته الجلد وكان مريضا فتنفذ عليه بالصفة التي يتحملها.[36]

المبحث الثاني: تجليات التفريد بين التشريع والقضاء

المطلب الأول: تجليات التفريد التشريعي للعقوبة

يفهم من التفريد القانوني تدخل المشرع بغية تنظيم تفريد العقوبة وذلك بوضع عناصر لتقسيم المجرمين إلى طوائف مع توضيح المعيار الذي على أساسه يعرف كل نوع من الأنواع المنصوص عليها، ثم يخصص نظام عقابي لكل نوع على حدة.[37]
ويقصد بالعقوبة منع الجاني من الإساءة مجددا للمجتمع وحثه على تجنب ارتكاب جرائم مماثلة، مما يحافظ على كيان المجتمع ويحد من انتشار الجريمة.
وبناء عليه سيكون من الأفيد الحديث عن مظاهر التفريد التشريعي للعقوبة في فقرة أولى، على أن نخصص الفقرة الثانية لقصور التفريد التشريعي للعقوبة.

الفقرة الأولى: مظاهر التفريد التشريعي للعقوبة

إن البحث في الدور الذي يمكن للمشرع القيام به في عملية تفريد العقوبة، يمكن استخلاصه من خلال الوقوف عند مسألتين أساسيتين:
تتمثل الأولى في التميز التشريعي على مستوى المعاملة العقابية لكل نوع من أنواع الجرائم (أولا)، فيما تتعلق الثانية في تلك الحالات التي يضيق فيها المشرع من تدخله في نطاق سلطة القاضي التقديرية.

أولا: تنوع العقوبة كمظهر من مظاهر التفريد التشريعي

إذا كان القانون يهدف أساس إلى تنظيم الحياة الاجتماعية فإن هذا المبتغى يصير أكثر وضوحا وإلزاما للأفراد عندما يتعلق الأمر بالقانون الجنائي، ذلك أن هذا الأخير على عكس باقي القوانين الأخرى، لا يتضمن قواعد تبقي للأفراد هامشا كثيرا من الحرية والاختيار في التعامل معها، وإنما يفرض أنماطا معينة من السلوك سواء أكانت في صورتها الإيجابية أو السلبية، لا يملكون إزاءها إلا الخضوع والامتثال[38]، وذلك تحت طائلة التعرض للعقاب. ولما كان الهدف من الأوامر والنواهي الجنائية هو حماية المصالح المعتبرة داخل المجتمع، ولو على الأقل من الناحية المبدئية.
ولما كانت تلك المصالح متباينة بدورها من حيث أهميتها وضرورتها لتطور الحياة الاجتماعية واستقرارها، فقد كان طبيعيا أن تختلف طبيعة الحماية الزجرية لتلك المصالح، إذ تزداد قساوتها وأهميتها كلما كانت المصلحة ذات أهمية واعتبار كبيرين وتنقص بنقصانهما.[39]
إن معيار طبيعة المصلحة موضوع الحماية الجنائية، لا يعدو أن يكون مجرد معيار وأساس يعتمده المشرع كأول مدخل من المداخل المؤدية إلى تفريد العقاب وتنويعه، وإذا كان المنطق يفرض على المشرع القيام بعملية التفريد العقابي لكل جريمة على حدة وذلك بالنظر إلى طبيعتها، فإننا نجده على العكس من ذلك، قد قام من أجل مساعدة القاضي على تحقيق مهمة العقاب من جهة، وتوفير الوضوح والبساطة اللازمين لصياغة قواعد القانون الجنائي من جهة أخرى، بإدراج عدة تقسيمات كبرى للجرائم تضع في خاناتها الجرائم المتقاربة من حيث طبيعة المصالح التي تمسها.
واتبع ذلك بتخصيص كل طائفة من المجرمين بمعاملة عقابية خاصة ومتميزة، لكنها تبقى أولية.[40]
وبالرجوع إلى الفصل 141 من ق.ج المغربي الذي ينص على: ''الجرائم إما جنايات أو جنح تأديبية أو جنح ضبطية أو مخالفات، على التفصيل الآتي:
الجريمة التي تدخل عقوبتها ضمن العقوبات المنصوص عليها في الفصل 16 تعد جناية.[41]
الجريمة التي يعاقب عليها القانون بالحبس الذي يزيد حده الأقصى عن سنتين تعد جنحة تأديبية.
الجريمة التي يعاقب عليها القانون بحبس حده الأقصى سنتان أو أقل أو بغرامة تزيد عن مائة وعشرين درهما تعد جنحة ضبطية.
الجريمة التي يعاقب عليها القانون بإحدى العقوبات المنصوص عليها في الفصل 18 تعد مخالفة''.[42]
والجدير بالذكر أن النهج الذي سار عليه المشرع المغربي لا يخرج عن القاعدة العامة التي سارت عليها معظم التشريعات المقارنة، ومنها قانون العقوبات الجزائري الذي صنف الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات (المادة 27 من قانون العقوبات الجزائري)، وكذا المادة الأولى من قانون العقوبات الموريتاني لسنة 1983.[43]
إلا أنه إذا كانت المصلحة محل الانتهاك قد شكلت أساسا لقيام معظم التشريعات القانونية بتقسيم الجرائم إلى جنايات تخصص لها أقسى أنواع العقوبات المعروفة، ثم جنح تقع في مرتبة متوسطة من حيث قسوة العقاب المقترن بها، ليأتي الدور بعد ذلك للمخالفات باعتبارها أضعف الجرائم من حيث طبيعة المعاملة العقابية المفردة لمرتكبيها. فإننا نجد أن هناك بعض التشريعات لم تقسم الجرائم ومن ثم العقوبات المفردة، كما سوت بين المخالفات والجنح، ومن بينها القانون الإسباني، والجنايات والجنح في القانون الدنماركي، لنصل في النهاية إلى حالة تشريعات فضلت عدم القيام بعملية التفريد إطلاقا على هذا المستوى، حيث لم تضع أي تقسيم عام ومبدئي لطائفة الجرائم التي تنص عليها، ويتعلق الأمر بالتشريعات الاشتراكية.[44]
وبالرجوع إلى المصلحة المتمثلة في الأمن الداخلي للدولة، نجد أن المشرع المغربي جعل من فعل الاعتداء على شخص الملك أو حياته جناية معاقب عليها بالإعدام، وكذلك الأمر بالنسبة للاعتداء على ولي العهد، كما أضار إلى ذلك الفصلين 163 و 165 من ق.ج، بينما نجده قد عاقب على العزم المجرد الذي يصدر من قبل شخص واحد بالسجن من خمس إلى عشر سنوات وفق ما جاء في الفصل 178 من ق.ج.[45]
فمن خلال هذا المثال يتضح بأن وحدة المصلحة متمثلة في حماية الملك وولي العهد وشخصهما، وقد برز انطباق الأحكام القانونية الخاصة بالجنايات على هاتين الجريمتين وبالتالي وقوعهما تحت نفس خانة التقسيم التشريعي، إلا أن التباين الحاصل على مستوى حدوث تأثيرهما ومساسهما بالمصلحة المحمية، وقد برز التمايز على مستوى المعاملة العقابية، إذ مقابل الإعدام المخصص كعقوبة الاعتداء على حياة الملك وولي العهد أو شخص الملك باعتباره عملا خرج إلى حيز التنفيذ وشرع في تطبيقه، وبالتالي صارت خطورته وضرره أكيدين، في حين أن مجرد العزم الذي لا يزال لم يخرج عن حدود التفكير والتصميم المجردين، قد عوقب فاعلهما بعقوبة سجنية متراوحة بين خمس وعشر سنوات.
إن التفريد التشريعي القائم على أساس المصلحة وكذا حجم المساس بها، تعتبر عملية متكاملة، فإنه لا يمكن فصل أحد عناصرها، لأن المشرع الجنائي الذي يأخذ بعين الاعتبار طبيعة المصلحة المحمية المعتدى عليها يراعي في نفي الوقت ما يلحق تلك المصلحة المحمية من أضرار ناتجة عن الجريمة وهو ما جعل المشرع لا يفصل بين الجنايات والجنح في أي باب من الأبواب المشكلة للقانون الجنائي المغربي، حيث نجده مثلا يعنون الباب الثالث ''في الجنايات والجنح التي يرتكبها الموظفون ضد النظام العام''.[46] ذلك أن المصلحة المعتدى عليها حتمت عدم إدراج هذه الجرائم في غير خانة الجنايات أو الجنح، بينما فرضت طبيعة وحجم الضرر اللاحق بالمصلحة إفراد كل قدر من الأضرار بخانة معينة من الخانتين.

ثانيا: خصوصيات التفريد التشريعي للأحداث[47]

يعرف الحدث بأنه:
''الصغير الذي أتم السن التي حددها القانون للتمييز، ولم يتجاوز السن التي حددها لبلوغ الرشد''.[48]
وينسب علماء الاجتماع انحراف الحدث إلى البيئة التي نشأ فيها، فالحدث المنحرف بالنسبة لهم ضحية ظروف خاصة، اتسمت بعدم الاطمئنان والاضطراب الاجتماعي، فهم ضحايا ظروف معقدة يجتمع فيها الاقتصادي والثقافي، وجميع العوامل السلبية المهيمنة على تنشئتهم. وبناء على ذلك فإن إجرام الأحداث يختلف عن إجرام البالغين كون الحدث لازال في طور التكوين والتنشئة الاجتماعية. بينما يكون المجرم البالغ قد تخطى مرحلة تكوين الشخصية.
وبالرجوع إلى مواد الكتاب الثالث خاصة المواد من 458 إلى 461 من قانون المسطرة الجنائية، والتي توضح الإجراءات المتعلقة بمتابعة الأحداث الجانحين، يتبين أنه تم حصر الجزاءات الجنائية المقررة لهذه الفئة في التدابير دون العقوبة نظرا للطابع الحمائي الذي يميز قضاء الأحداث، لهذا نجد أن المشرع المغربي قد حدد لقاضي الأحداث مجموعة من التدابير بهدف تحقيق مبدأ تفريد العقوبة، حيث يختار القاضي من هذه التدابير ما يتناسب ومصلحة الحدث مراعيا في ذلك سنه ومدا إدراكه وتمييزه وحالته الجسمانية والصحية والنفسية وظروف بيئته الاجتماعية.
وتتنوع التدابير المقررة للأحداث الجانحين ما بين تدابير هدفها الحماية وتدابير هدفها الإصلاح والتهذيب، وذلك حسب تدرج مسؤولية الحدث الجامح ما بين مرحلة انعدام المسؤولية[49] ومرحلة نقصانها[50].

1- مرحلة انعدام المسؤولية الجنائية

يقصد بانعدام المسؤولية الحالة التي تتجرد فيها الإرادة من القيمة القانونية، فالإرادة التي تعتبر أساسا للمسؤولية والتي يعتد بها المشرع الجنائي لا تتحقق إلا إذا توافر فيها شرطان هما:
التمييز وحرية الاختيار[51]، فإذا انتفى أحد هذين الشرطين أو كلاهما تصبح الإرادة مجردة من القيمة القانونية، وتكون بذلك أمام مانع من موانع المسؤولية الجنائية، وعلة هذا الامتناع أو الانعدام خلال هذه المرحلة هو كون الصغير غير قادر على فهم طبيعة الأفعال التي يرتكبها وتوقع العواقب التي تترتب عنها[52].
وبالرجوع إلا الفصل 138 من القانون الجنائي المغربي نجد أنه لم يفصل في التدابير التي ينبغي أن تتخذ في حق الحدث غير المميز، وإنما أحال في ذلك على المقتضيات المقررة للأحداث في الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية، والتي باستقرائها نميز بين ثلاث حالات وهي كالتالي:
-       حالة ارتكاب الحدث عديم المسؤولية الجنائية لمخالفة 
-       حالة ارتكاب الحدث عديم المسؤولية الجنائية لجنحة 
-       حالة ارتكاب الحدث عديم المسؤولية الجنائية لجناية 
فبالنسبة للحالة التي يرتكب فيها الحدث عديم المسؤولية الجنائية مخالفة، يمكن للقاضي أن يقتصر إما على توبيخ الحدث[53]، أو الحكم بالغرامة المنصوص عليها قانونا[54].
أما حالة ارتكاب الحدث عديم المسؤولية الجنائية لجنحة، فيمكن لقاضي الأحداث أن ينبه الحدث الجانح ويسلمه لإحدى الجهات المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من المادة 468 من ق.م.ج.
أما بالنسبة لحالة ارتكاب الحدث الجانح المنعدم المسؤولية الجنائية لجناية، فإن المشرع المغربي لم يتوان على إخضاع الحدث لتدابير الحماية والتهذيب المنصوص عليها في المادة 481 من ق.م.ج.[55]
والملاحظ أن العقوبة السالبة للحرية مستبعدة بالنسبة للحدث الجانح رغم ارتكابه لفعل يعد جناية، وذلك تماشيا مع الفصل 138 من ق.ج.

2- التدابير المقررة للأحداث خلال مرحلة نقص المسؤولية الجنائية:

أما بخصوص الحدث ناقص المسؤولية الجنائية، فقد ذهب بعض التشريعات إلى تقرير حكم واحد للحدث الذي يرتكب الجريمة، وذلك بتخيير المحكمة بين توقيع العقوبة على الحدث مع وجوب تخفيفها عن العقوبة العادية وبين الاقتصار على تطبيق التدبير، فإذا تبين للمحكمة أن الحدث على درجة من الخطورة تجعل التدبير غير مجد لإصلاحه، فلها أن تحكم بعقوبة مخففة وإذا ظهر لها خلاف ذلك طبق عليه التدبير.
فبالنسبة للحدث الذي أتم اثنا عشرة سنة ولم يبلغ الثامنة عشرة لا يجوز الحكم عليه في المخالفة إلا بالتوبيخ أو الغرامة، أما إذا كانت الجريمة المنسوبة للحدث جنحة أو جناية فيحكم عليه بتدبير واحد أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب (المواد 471-481-493 من ق.م.ج)، كما أجاز للمحكمة أن تعوض أو تكمل التدابير بالعقوبات الحبسية على الحدث الجانح بشرط تخفيض الحدين الأدنى وأقصى للعقوبة المحكوم بها إلى النصف، وهذا ما نصت عليه المادة 482 من ق.م.ج، وإذا كانت العقوبة هي الإعدام أو السجن المؤبد أو السجن المحدد ثلاثين سنة، فتستبدل بعقوبة تتراوح بين عشرة وخمسة عشر سنة سجنا.[56]
فالتدبير هو الأصل، لكن بصفة استثنائية أجاز المشرع لهيئة الحكم نظرا لظروف الحدث أو شخصيته أن تعوض أو تتم التدبير بعقوبة جنائية مع إلزامها بتعليل قرارها تعليلا خاصا، وهذا ما أكدته المادة 482 من ق.م.ج[57]، بحيث يخضع القاضي في جانب التعليل لرقابة محكمة النقض. وقد أكد هذا الأخير ذلك في قرار له صادر بتاريخ 04 أبريل 2004 جاء فيه:
''يكون القرار المطعون فيه ناقص التعليل لما أدان الحادث بجنحة الهروب من مركز رعاية الطفولة بناء على مقتضيات الفصل 309 من القانون الجنائي، وقضى عليه بالحبس النافذ دون أن يعلل ما قضى به تعويض تدبير الحماية من الحرية المحروسة إلى العقوبة السالبة للحرية، ولم يخفض العقوبة إلى نصف الحد الأقصى والأدنى...''.
من خلال هذا القرار القضائي تظهر سلطة محكمة النقض في رقابة محاكم الموضوع بخصوص توقيع العقوبة على الحدث والخروج عن القاعدة، بحيث أن العقوبة تبقى هي الاستثناء، وفي حالة ما تم استبدال التدبير بالعقوبة فلابد من تعليل وتوضيح الأسباب الحقيقية وراء استبدال القاعدة بالاستثناء.

الفقرة الثانية: قصور الدور التفريدي للمشرع

إن أقصى ما يعتمده المشرع الجنائي كأساس لتفريد الجزاء الواجب تطبيقه في حق المجرم، هو الاعتماد على بعض المعايير الموضوعية الراجعة إلى الطبيعة المجردة للجريمة، وذلك من خلال النظر إلى طبيعة المصلحة محل المساس ثم حدوث ما لحقها من ضرر وخسارة، لجعل ذلك أساسا لتحديد بعض من ملامح وجه المعاملة العقابية للمجرم.
إلا أن الاقتصار على الأخذ بمجرد هذه العناصر كان سيفقد العقوبة أهم غرض من أغراضها المعاصرة، والمتمثل أساسا في هدف إقامة العدل الاجتماعي، هذا الهدف لا يعني أكثر من اختلاف طبيعة شخصية المجرم من جهة واختلاف كيفية ارتكاب الجريمة من جهة أخرى، لا يعدو أن ينهض كأساس لإقامة تمييز في مقدار المعاملة العقابية، ولما كانت تلك المعطيات المرتبطة بشخصية الجاني من جهة وظروف وكيفية ارتكاب الجريمة من جهة أخرى، أمورا تظل في غالب الأحيان غائبة عن بال المشرع الذي يبقى عاجزا عن الإحاطة الشاملة بها لحظة وضعه للنص الجنائي المعاقب. وقد اعتبر بعض الفقه أن المشرع قد ميز بين نوعين من الظروف والمعطيات، حيث اعتبر الأولى مستعصية على إدراكه ومعرفته، فأسند أمر البت في شأنها والأخذ بها إلى القاضي الذي يتولى التصدي للقضية، وذلك بحكم الاتصال المباشر لهذا الأخير بكل من الجريمة والمجرم.[58]

المطلب الثاني: النطاق القانوني لسلطة القاضي التقديرية والضوابط المعتمدة في تفريد الجزاء
الفقرة الأولى: النطاق القانوني لسلطة القاضي التقديرية

السلطة التقديرية هي الرخصة التي منحها المشرع للقاضي لتقديري العقوبة وفقا لحديها الأدنى والأقصى وإمكانية تجاوز هذين الحدين وذلك وفقا لبعض الظروف التي من شأنها إما أن تقلص من خطورة الجاني أو العكس.[59]
وبما أن القاضي هو الذي يباشر الدعوى ويحتك أكثر من غيره بالوقائع وبالشخص الجاني، لذا فالمشرع وجد نفسه ملزما بتفويض القاضي وإعطائه الحرية في اختيار الجزاء الأكثر ملاءمة لطبيعة الجاني وهذا ما جاء في الفصل 141 من القانون الجنائي.
وتطور سلطة القاضي التقديرية في المغرب عرف ثلاث مراحل رئيسية:

1-    مرحلة ما قبل الحماية: هذه المرحلة ساد فيها تطبيق الشريعة الإسلامية في المسائل الجنائية بالراجح والمشهور وما جرى عليه العمل من مذهب الإمام مالك، إلا أنها طبعت بعدم التطبيق السليم لمبادئ هذه الشريعة، نظرا لترك مطلق السلطة للقاضي في تقدير العقوبة، وهذا ما جعل تلك الحقبة تعرف بمرحلة العقوبات التحكمية.

2-    مرحلة الحماية: اتسمت بخضوع سكان المغرب لتشريع جنائي عرفي، الأمر الذي كان ينتج عنه اختلاط السلطتين التنفيذية والتشريعية بل حتى القضائية. نظرا لتقسيم المغرب آنذاك إلى ثلاث مناطق: منطقة الحماية الفرنسية بالجنوب، ومنطقة الحماية الإسبانية بالشمال، ثم المنطقة الدولية بطنجة.

3-    مرحلة الاستقلال: ابتداء من سنة 1957، كلفت لجنة مشكلة من قضاة بالمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا)، وقضاة من وزارة العدل بإعداد تشريع موحد جديد يطبق في مختلف أنحاء المملكة وعلى سائر المجرمين، فتم إصدار قانون المسطرة الجنائية سنة 1959، ثم القانون الجنائي سنة 1963، والذي لازال معمولا به إلى يومنا هذا رغم بعض التعديلات التي لحقت بعض نصوصه.[60]

والمشرع المغربي منح للقاضي عدة وسائل تمكنه من تقدير العقوبة حسب ما يراه ملائما لطبيعة الجاني وخطورته الإجرامية، فقد يكتفي بتدريج العقوبة بين حديها الأدنى والأقصى، كما قد ينزل بها عن حدها الأدنى بموجب ظروف التخفيف، وقد يقوم بتشديدها بموجب ظروف التشديد، وقد يقتصر على تطبيق عقوبة واحدة من بين عقوبتين أو عدة عقوبات، كما قد يرى ضرورة تطبيقها كلها، وله أيضا أن يوقف تنفيذها إذا ما اجتمعت أسباب هذا الإيقاف. وهذه الوسائل تعكس مختلف صور سلطة القاضي التقديرية في تفريد العقوبة.

الفقرة الثانية: النطاق القانوني لسلطة القاضي في تفريد العقوبة

1- العقوبات التخييرية:

منح المشرع المغربي للقاضي سلطة اختيار العقوبة الأكثر ملاءمة، حيث لم يقيد حريته في إنزال عقوبتين معا أو الاقتصار على واحدة فقط، وهذا ما يظهر من خلال الحكم الصادر عن ابتدائية السمارة في الملف الجنحي التلبسي عدد 07/11 بتاريخ 16/03/2007 (جنحة الإمساك العمدي عن دفع النفقة)، والذي جاء فيه أن الضنين اعترف بالمنسوب إليه أمام هيئة الحكم.... وبالنظر إلى ظروفه الاجتماعية والعائلية وانعدام سوابقه القضائية، ولإيداعه لواجبات النفقة المحكوم عليه بها بصندوق هذه المحكمة... قررت المحكمة تمتيعه بظروف التخفيف مع جعل العقوبة موقوفة التنفيذ في حقه.....لهذه الأسباب تم مؤاخذة الضنين من أجل ما نسب إليه والحكم عليه بشهر واحد حبسا موقوف التنفيذ وغرامة نافذة قدرها 500 درهم.[61]
ويرجع ذلك لوعي المشرع بعدم جدوى العقوبات السالبة للحرية القصيرة المدة، وعليه فهو يجيز للقاضي اختيار إحدى العقوبتين أو الحكم بهما معا، فالقاضي له سلطة تقديرية لاختيار العقوبة الملائمة حسب ظروف النازلة وملابساتها، دون أن يترتب على ذلك نقص الحكم. إلا أن ما يعاب على المشرع اقتصاره على نوعين من العقوبات التخييرية وهي الحبس والغرامة.
وتجدر الإشارة إلى أن مبدأ الخيرة يجد سنده فيما كان قد دعا إليه (garçon) وأقره Saleilles) (Reymond عن نظرية العقوبات المتوازية والتي تتلخص في وضع المشرع مجموعتين اثنتين من العقوبات الأولى مشينة والثانية عقوبات غير مشينة، حيث يترك للقاضي سلطة اختيار العقوبة المناسبة من إحدى المجموعتين لكل مجرم على حدى، واعتبار (garçon) أن الباعث على ارتكاب الجريمة وسخط الرأي العام على الوسائل المستعملة في ارتكابها هما المعيارين الذين يتم بهما التفرقة بين المجموعتين بحيث إذا كان الباعث نبيلا اختيرت العقوبات غير المشينة والعكس إذا ما كان هذا الباعث دنيئا.[62]

2- التدرج الكمي للعقوبة:

وهو من ضمن الوسائل التي يمكن للقاضي استعمالها لتفريد الجزاء، فالمشرع يضع العقوبات ذات حدين أحدهما أدنى والآخر أقصى، ويخول للقاضي سلطة تقدير العقوبة الملائمة بين هذين الحدين[63]، ويجسد هذا التصرف أبسط صور السلطة التقديرية للقاضي الجنائي.
وجدير بالذكر أنه رغم شساعة الفرق بين الحدين الذين يمنحهما المشرع إلا أنه لم يقيد سلطة القاضي التقديرية ولم يضع له ضابط يقيده به داخل الحدين القانونيين والدليل على ذلك أنه لم يلزم القاضي بتعليل قراره سواء في حالة الحكم بالحد الأدنى أو الأقصى، لتبقى مراعاة كل من خطورة الجريمة وشخصية المجرم هما الضابطين الملزمين للقاضي في هذا الشأن، وهذا ما يمكن استخلاصه بالرجوع إلى مقتضى الفصل 141 من القانون الجنائي المغربي.

3- حدود سلطة القاضي التقديرية في تخفيف العقوبة:

يقصد بتخفيف العقوبة حكم القاضي من أجل جريمة ما بعقوبة أخف من العقوبة المقررة لها قانونا، أو أدنى من الحد الأدنى الذي يضعه المشرع، لأنه قد تكون العقوبة أشد مما يلزم إزاء حالات معينة، لذلك فالقاضي سيستعمل هذه الوسيلة من أجل تحقيق الملائمة.[64]
والمشرع وإن قام بتوضيح كيفية تخفيف العقوبات وشروط هذا التخفيف في الفصول من 147 إلى 151 إلا أنه لم يحدد الضوابط التي يجب اعتمادها في تحديد هذه الظروف حيث اكتفى في المادة 146 بمنح المحكمة إمكانية استخلاص هذه الظروف بترك ذلك كله لفطنته وحسن تقدير القاضي، لكن وإن كان المشرع قد فتح للقاضي مجالا واسعا لاتخاذ قراره من جهة، فقد ألزمه من جهة أخرى بتعليل هذا القرار.
وتتجلى أهمية نظام التخفيف القضائي في تفريد العقوبة بكونه الأداة التي يستطيع بها القاضي مواكبة الواقع العملي تحت مظلة نصوص القانون، كي لا تصبح هذه النصوص أسوار عالية تحجب على المحكمة إمكانية توفير العدل وتحقيق أهداف العقاب.
إن منح ظروف التخفيف من طرف المحكمة للمدان في جناية يترتب عنه لزوما تخفيف العقوبة في الحدود التي رسمها المشرع، بحيث لا يجوز أبدا للمحكمة مخالفة هذه الحدود[65] وإلا عرضت حكمها للنقض من طرف محكمة النقض، وهذا ما جاء في قرار صادر عن هذه الأخيرة جاء فيه:
''.....وحيث أن المحكمة صرحت في منطوق حكمها أنها منحت المتهم ظروف التخفيف تطبيق للفصل 146 من القانون الجنائي، فكان عليها والحالة هذه أن تحكم بالسجن من خمس إلى عشر سنوات، أو بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات تطبيقا للفقرة الرابعة من الفصل 147 من نفس القانون، ورغم ذلك حكمت عليه بالحد الأقصى مخالفة بذلك مقتضيات الفصل المشار إليه أعلاه''.[66]
والملاحظ أنه خلافا لما جاء في القرار السابق تلجأ المحاكم في كثير من الأحيان إلى استعمال هذه الوسيلة بغية تخفيف العقوبة إلى ما دون حدها الأدنى، وهذا ما يتبين من خلال القرار الصادر عن محكمة  الاستئناف بالرباط بتاريخ 27 نونبر 1986 في قضية اغتصاب، الذي جاء فيه: ''...وبعد الاستماع إلى كافة الأطراف المعنية في القضية، قضت المحكمة بمؤاخذة المتهم من أجل ما هو منسوب إليه، وحكمت عليه بسنتين حبسا نافذا مع تحميله الصائر والإجبار في الأدنى، وذلك بعد منحه ظروف التخفيف نظرا لظروفه العائلية وحالته الاجتماعية وعدم سوابقه.[67]
ومن خلال هذا القرار يتبين أن القاضي لم يحكم بالحد الأدنى للعقوبة المقررة في الفصل 486 وهو السجن من خمس إلى عشر سنوات. بل نزل عن ذلك بموجب سلطته التقديرية المخولة له قانونا.
وفي نفس الاتجاه السابق سار حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بالسمارة تتلخص وقائعه في قيام الضنين بهتك عرض قاصر، الذي جاء فيه: ''....حيث أن هذه المصلحة محمية بالفصل 484 من القانون الجنائي، وحيث أنه بالنظر لظروف الضنين الاجتماعية والعائلية وانعدام سوابقه القضائية ارتأت المحكمة تمتيعه بظروف التخفيف''، وتم الحكم عليه بسنة واحدة حبسا نافذا.[68]
وهنا أيضا يظهر جليا كيف أن القاضي بالاعتماد على ظروف التخفيف نزل بالعقوبة إلى ما دون الحد الأدنى.
وأخيرا يمكن ملاحظة أن معظم المحاكم اقتصرت في تعليل أحكامها على نفس الأسباب، حيث أصبحت العبارة المألوفة في جلها من حيث تعليل التخفيف:''نظرا للظروف الاجتماعية والعائلية وانعدام السوابق القضائية.....''،

4- حدود سلطة القاضي التقديرية في تشديد العقوبة:

إن القاضي له سلطة تقديرية في أن يتجاوز الحد الأقصى المقرر للجريمة، كما قد يحكم بعقوبة من نوع آخر أشد درجة، كالحكم بالحبس بدلا من الغرامة، والظروف المشددة قد تؤدي إلى تغيير طبيعة الجريمة من جنحة إلى جناية.
وهي مجموعة العناصر التي لا تدخل في التكوين القانوني للجريمة ويترتب على توافرها وجوب أو جواز أخذ المتهم بالشدة، ويتضح أن أسباب تشديد العقوبة تؤثر على حدود سلطة القاضي التقديرية فهي تستبدل الحدود العادية بحدود جديدة فتلزم القاضي أن يحكم بعقوبة من نوع أشد مما يقرره القانون للجريمة، وعليه الأخذ بهذه الأسباب هي تمكين القاضي من تحقيق ملائمة كاملة بين العقوبة التي ينطق بها والظروف الواقعية للدعوى التي تقتضي مزيدا من التشديد.

5- حدود سلطة القاضي الجنائي في وقف تنفيذ العقوبة:

وقف التنفيذ هو النظام الذي بمقتضاه ينطق القاضي بالعقوبة ويأمر بوقف تنفيذها لمدة معينة.
ووقف تنفيذ العقوبة له هدفين أساسين:
-       إصلاح وتقويم المجرمين لأنه يحثهم على التحلي بسلوك حسن، والانضباط في الحياة العادية، طمعا في الإفلات من العقوبة التي تهددهم وخوفا من عقوبة أقسى وأشد.
-       تجنيب هؤلاء المجرمين خطر عدوى الإجرام.
وإيقاف التنفيذ يختلف من نظام إلى آخر، فالأنظمة الأنجلوسكسونية تأخذ بما يعرف بنظام وقف النطق بالحكم مع الوضع تحت الاختبار. أما الأنظمة اللاتينية فإن القاضي يصدر حكما في القضية ولكنه يأمر بعدم تنفيذه، إلا إذا ارتكب المجرم جريمة جديدة.[69]
ولا يجوز للقاضي أن يحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة إلا إذا توفرت شروط ذلك، وذلك رغبة من المشرع في تقييد سلطته في تفريد العقوبة، وهذه الشروط:
-       شروط متعلقة بالمجرم: أخلاق المحكوم عليه، ماضيه.
-       الشروط المتعلقة بالجريمة: مجال إيقاف تنفيذ العقوبة يقتصر على الجنايات والجنح دون المخالفات، لأن وقف التنفيذ إذا شمل المخالفات ستفقد قيمتها الردعية.
-       الشروط المتعلقة بالعقوبة: إذ أن إيقاف التنفيذ لا يجوز أن يمتد إلى جميع العقوبات لأن نطاقه الطبيعي هو العقوبات الجنحية.
وحدود سلطة القاضي الجنائي ليست مطلقة لأنه لا يملك صلاحية تمتيع أي مجرم بوقف التنفيذ لأن المشرع جعل هذا الإجراء مقيدا ببعض الشروط من جهة، وكونه ملزما بتعليل قراره بوقف تنفيذ العقوبة من جهة أخرى، وإلا عرض حكمه للنقض.
وهذا ما يستفاد من قرار صادر عن المجلس الأعلى، الذي جاء في حيثياته: ''...وحيث يتضح أن المحكمة لئن عللت قرارها بمنح المتهم ظروف التخفيف فإنها لم تأت بأي تعليل خاص لتوقيع عقوبة حبسية موقوفة التنفيذ في حق المتهم غير مراعية بذلك ما أوجبه المشرع في الفصل 55 من القانون الجنائي المشار إليه أعلاه، مما جاء معه قرارها مخالفا للقانون ومعرضا بالتالي للنقض والإبطال''.[70]
ومن الآثار التي ينتجها وقف التنفيذ على تفريد العقوبة أنه لا يجوز اتخاذ أي إجراء تنفيذي ضد المحكوم عليه خلال فترة الاختبار، إلا أن الإيقاف ليس نهائيا بل هو قابل للإلغاء في أي لحظة وذلك إذا ما ارتكب المحكوم عليه جريمة بمعناها القانوني.[71]
وإذا انقضت فترة التجربة دون إلغاء وقف التنفيذ يصبح عدم التنفيذ نهائيا، فلا تنفذ العقوبة ويعتبر الحكم بها كأن لم يكن ولا يعتبر سابقة في العود. كما يمكن إلغاء إيقاف التنفيذ إذا ما كان هذا الإيقاف غير مجد.

الفقرة الثالثة: الضوابط التي يعول عليها القاضي لتفريد العقوبة

بالرجوع إلى مضمون الفصل 141 من القانون الجنائي، نلاحظ أن المشرع قد حدد ضوابط استعمال القاضي لسلطته التقديرية في تفريد العقوبة في: خطورة الجريمة المرتكبة وشخصية المجرم.

أولا: الخطورة الإجرامية

لم يعط المشرع المغربي تعريفا للخطورة الإجرامية على خلاف المشرع الإيطالي والليبي.
فالمادة 133 من قانون العقوبات الإيطالي قد جاءت متضمنة للمعايير التي يتعين على القاضي الأخذ بها لمعرفة الخطورة الإجرامية وهي:
-       طبيعة الفعل ونوعه ووسائل ارتكابه ومحله وزمانه وسائر الظروف المتعلقة به.
-       جسامة الضرر أو الخطر الذي لحق أو هدد المجني عليه في الجريمة.
-       درجة القصد أو الخطأ.
كما أوجب على القاضي أيضا الأخذ بالمعايير التالية:
-       بواعث الجريمة ونوع المجرم.
-       السوابق الجنائية والقضائية وبصفة عامة سلوك المجرم وأسلوب حياته السابقة على الجريمة.
-       سلوك المجرم المعاصر واللاحق للجريمة.
-       ظروف المجرم وحياته الخاصة والعائلية والاجتماعية.
وهو نفس النهج الذي سلكه المشرع الليبي في الأخذ بالخطورة الإجرامية.
لكن عدم وضع المشرع المغربي لتعريف محدد للخطورة الإجرامية، لم يمنع الفقه من الإشارة ولو بصورة عارضة إلى وجود ثلاثة معايير يمكن للقاضي الاعتماد عليها في استخلاص خطورة الجريمة وهي:
-       جسامة الاعتداء على الحق.
-       أسلوب تنفيذ الفعل الإجرامي.
-       العلاقة بين المتهم والمجني عليه.
وإن كان هذا الرأي غير دقيق لأنه اقتصر فقط على الجانب المادي للجريمة مع العلم أن الجانب النفسي يبقى له الدور الحاسم.
والواقع أنه إذا أردنا البحث عن المعايير التي سيهتدي بها القاضي في استظهار الخطورة الإجرامية نجد الفقه يقسمها إلى طائفتين: الأولى تتعلق بالجريمة، والثانية تتعلق بالجاني.
لذلك كان لزاما بيان الضوابط المتعلقة بالجريمة لاستظهار الخطورة الإجرامية، فبالنسبة لهذه تواجد مجموعتان من الضوابط: مجموعة متصلة بالركن المادي، وأخرى متصلة بالركن المعنوي.
+ المجموعة المتصلة بالركن المادي:[72]
وهي إما متعلقة بالنشاط الإجرامي: كالوسيلة المستعملة في ارتكاب الجريمة أو زمانها ومكانها، أو متعلقة بالنتيجة الإجرامية: كالضرر المادي والمعنوي.
+ الضوابط المعول عليها في الركن المعنوي:[73]
بما أن الركن المعنوي هو الأساس الذي تنبني عليه المسؤولية الجنائية، فالشخص لا يسأل حتى يكون له أهلية جنائية وقت ارتكاب الفعل ويمكن التعبير عن الركن المعنوي بأنه هو العلاقة النفسية بين الفعل والنتيجة.
والقاضي يجب عليه استظهار القصد لأنه لا يستقيم تطبيق العقوبة بدون وجود قصد وأيضا تحديد نوع القصد هل هو قصد عام أو خاص حيث يعتبر الأول أقل جسامة من الثاني.

ثانيا: شخصية المجرم وآثارها على تفريد العقوبة

للوقوف على شخصية المجرم بشكل دقيق، يتم الرجوع إلى بالأساس إلى سوابقه والظروف العائلية والاجتماعية التي يعيش فيها، ومن هنا جاءت ضرورة ملامسة هذين الجانبين.

1 - سوابق الجاني:

إن ماضي المتهم هو مرآته في حاضره، ومن لا سوابق له يكون عادة أقل خطورة من المعتاد على الإجرام، ويتعين من تم أخذه بالرأفة.
وبذلك تعد السوابق من العناصر الكاشفة عن خطورة شخصية الجاني، لذا يتعين على القاضي أن يتعرف على سلوك الجاني وحياته قبل ارتكاب الجريمة، فقد تكون هناك ظروف تتحكم في سلوكه ومعيشته خارجا عن القانون.
وما يدل على كثافة خطورة الجاني: قساوة أفعاله والسبل الاحتيالية ووسائل التمويه التي اعتمد عليها لتنفيذ جريمته وإخفاء أثرها.

2- الظروف العائلية والاجتماعية للمجرم:

يجب على القاضي أن يقوم بالدراسة الشاملة لشخص المجرم، لأن هذه الدراسة هي التي تمكنه من التعرف على العوامل والأسباب الشخصية والاجتماعية التي تدفع بالمجرم إلى ارتكاب الجريمة، كما يجب عليه عدم إغفال الارتباط الوثيق بين الأوضاع الاقتصادية والظاهرة الإجرامية. لأنه لا يمكن وصف الدواء بدون تشخيص الداء، وكما يقال تشخيص الداء نصف الدواء.
فمعرفة المجرم التامة هي التي تساعد القاضي على تقدير العقاب المناسب من حيث الشكل ومن حيث الحكم أثناء تنفيذ العقاب للقضاء على الخطورة الإجرامية.

خاتمة 

كانت هذه محاولة بسيطة لملامسة كل جوانب موضوع تفريد العقوبة نظريا حيث تم التطرق إلى موقف مختلف المدارس الجنائية التقليدية منها والحديثة، ومرورا بما جاء به التشريع المغربي في تفريد العقوبة. والملاحظ أن فكرة تفريد العقوبة عولجت في إطار توزيع الاختصاصات بين المشرع والقاضي والإدارة المشرفة على تنفيذ الجزاء. ليتضح أن كل من الجهات السابقة ينطلق من زاويته فالمشرع من جهته يحدد العقوبة بشكل عام وهدفه هو تحقيق الردع العام حيث ينطلق في تقدير العقوبة من مدى خطورة الجريمة على المجتمع. مع تمكينه للسلطات الأخرى من جعل العقاب القانوني مناسب لحالة الجاني الفردية ولظروف الجريمة ولا أدل على ذلك من سماحه للقاضي باستعمال سلطته التقديرية في تقدير العقوبة مراعيا في ذلك كل من ظروف المجرم والجريمة. وما دام هدف العقوبة هو الإصلاح فالمشرع ترك السلطة أحيانا للإدارة المشرفة على تنفيذ الجزاء من أجل التخفيف من العقوبة أو الإعفاء منها مراعية في ذلك تحسن سلوك السجين داخل المؤسسة السجنية.
وجدير بالذكر أن منح القاضي السلطة التقديرية لا يتعارض مع مبدأ الشرعية بقدر ما يمثل توسيعا وتطبيقا لها على أرض الواقع تطبيقا سليما، لكن ما يمكن تسجيله في مواجهة المشرع المغربي من انتقاد هو كونه لم يحدد المعايير والضوابط الممكن الاعتماد عليها في تفريد الجزاء بشكل دقيق حينما منح للقاضي هذه السلطة، درءا لما يمكن أن يحدث من سوء استخدام القضاة لها باعتماد معايير شخصية أو عرقية أو فكرية في تفريدهم للعقوبة، ما يقتضي إخضاع السلطة المذكورة للمراقبة.
مع عدم إغفال الدور الفعال للتفريد الإداري كآخر مرحلة من تنفيذ العقوبة، وإيلائه العناية اللازمة التي تليق به، وذلك كله تحقيقا للعدالة والوصول للهدف المنشود من العقوبة وهو إصلاح المجرم ومنعه من العود إلى الجريمة.

قائمة المراجع

*    دة. لطيفة المهداتي، حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء، طبعة 2013.
*    د. عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام، طبعة 2007.
*    د. سليمان عبد المنعم، علم الإجرام والجزاء، منشورات الحلبي الحقوقية.
*    د. محمد صبحي نجم، أصول علم الأجرام وعلم العقاب.
*    د. محي الدين أمزازي، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية، طبعة 1993.
*    د. محمد صبحي نجم، قانون العقوبات ،القسم العام، النظرية العامة للجريمة.
*    د. ميلود غلاب: ''التجنيح القضائي وإشكالاته القانونية والعلمية''، الطبعة الأولى 2011
*    د. سليمان عبد المنعم، علم الإجرام والجزاء، منشورات الحلبي الحقوقية، ص534-535. محمد بن جلون، ''شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته''، طبعة 2004
*    أحمد ضياء الدين محمد خليل، ''الجزاء الجنائي بين العقوبة والتدبير'' طبعة 1993.
*    د. محمود نجيب حسني:''دروس في العقوبة''، مطبعة جامعة القاهرة، طبعة 1989.
*    د. أحمد ضياء الدين محمد خليل، ''الجزاء الجنائي بين العقوبة والتدبير'' طبعة 1993.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] - دة. لطيفة المهداتي، حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء، طبعة 2007، ص15.
[2] - مع العلم أن هذه التسمية لم تظهر إلا مع ''ريموند سالي'' سنة 1898 من خلال دروس ألقاها لطلبة الكلية الأهلية.
[3] - دة. لطيفة المهداتي، نفس المرجع، ص15.
[4] - دة. لطيفة المهداتي، نفس المرجع، ص15.
[5] - بحث لنيل دبلوم الماستر تحت عنوان:''مبدأ تفريد العقوبة بين النص التشريعي والسلطة التقديرية للقاضي الجنائي''، جامعة محمد الخامس السويسي، من إعداد الطالب امبارك شكراد، ص5.
[6] - ميلود غلاب: ''التجنيح القضائي وإشكالاته القانونية والعلمية''، الطبعة الأولى 2011، ص15.
[7] - R. SALEILLES, L'individualisation de la peine. P100
[8] - ميلود غلاب، نفس المرج، ص13-14.
[9] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص14.
[10] - محمد فاضل، ''الميادين العامة في قانون العقوبات''، طبعة 1965 جامعة دمشق، ص545.
[11] - محمد بن جلون، ''شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته''، طبعة 2004، ص270.
[12] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص14.
[13] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص14.
[14] - دة. لطيفة المهداتي، ''الشرعية في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية''، الشركة الشرقية-الرباط، الطبعة الأولى 2004، ص307.
[15] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص..
[16] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص..
[17] - د.عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام طبعة 2007، ص38.
[18] - د. سليمان عبد المنعم، علم الإجرام والجزاء، منشورات الحلبي الحقوقية، ص534-535.
[19] - د. محمد صبحي نجم، أصول علم الإجرام وعلم العقاب، ص105-106.
[20] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص 28.
[21] - محي الدين أمزازي، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية 1993 (العقوبة)، ص 278-279.
[22] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص41.
[23] - يرى كانت أن العقاب هو المقابل الحتمي لحرية الإرادة التي دفعت الجاني إلى سلوك سبيل الجريمة، وذلك بصرف النظر عن فكرة منفعة العقوبة. فالحرية إذا ما أسيئ استخدامها حق العقاب، وهذا هو منطق العدل أو هذه هي العدالة المطلقة، ولتأكيد ذلك يضرب مثالا شهيرا أسماه ''الجزيرة المهجورة'' الذي يفترض فيه أنه لو وجدت جماعة إنسانية تعيش في جزيرة ثم قررت أن تنفض وتترك هذه الجزيرة، فإن واجب العدالة يقتضي تنفيذ آخر حكم إعدام صدر عن السلطة العليا فيها، رغم كونه عديم الجدوى لأنه لا يعود على الجماعة بأي نفع لكونها على وشك الانفضاض. 
[24] - د.محمد صبحي نجم، أصول علم الإجرام وعلم العقاب، ص107.
[25] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص41.
[26] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص: 34.
[27] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص42-43.
[28] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص: 36.
[29] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص: 35.
[30] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص44-45.
[31] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص45.
[32] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص46 وما بعدها.
[33] - محمد صبحي نجم، قانون العقوبات القسم العام، النظرية العامة للجريمة، ص39.
[34] - دة. المهداتي، ص45.
[35] - محمد صبحي نجم، قانون العقوبات القسم العام، النظرية العامة للجريمة، ص40.
[36] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص48.
[37] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص18.
[38] - يتنازع مهمة تحديد مفهوم الجريمة تعريفان رئيسيان: تعريف قانوني يفترض وجود نص قانوني يجرم الفعل أو الترك، ويقرر عقوبة لمرتكبه، وتعريف اجتماعي يضفي صفة الجريمة على كل فعل يسبب اضطرابا اجتماعيا. راجع بهذا الخصوص: د.علوي جعفر.
[39] - د. أحمد ضياء الدين محمد خليل، ''الجزاء الجنائي بين العقوبة والتدبير'' طبعة 1993، ص150.
[40] - د. محمود نجيب حسني:''دروس في العقوبة''، مطبعة جامعة القاهرة، طبعة 1989، ص17.
[41] - ينص الفصل 16 من القانون الجنائي المغربي على ما يلي:
العقوبات الجنائية الأصلية هي: 1- الإعدام، 2- السجن المؤبد، 3- السجن المؤقت من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة، 4- الإقامة الإجبارية، 5- التجريد من الحقوق.
[42] - ينص الفصل 18 من القانون الجنائي المغربي على ما يلي:
العقوبات الضبطية الأصلية هي: 1- الاعتقال لمدة تقل عن شهر، 2- الغرامة من 30 درهما إلى 1200 درهم.
[43] - تنص المادة الأولى من قانون العقوبات الموريتاني على ما يلي:
تنقسم الجرائم إلا ثلاثة أنواع:
1- جرائم التعازير، 2- جرائم الحدود، 3- جرائم القصاص والدية.
تعد مخالفة الجريمة التي يعاقب عليها القانون بعقوبة المخالفة
تعد جنحة الجريمة التي يعاقب عليها القانون بعقوبات تأديبية
تعد جناية الجريمة التي يعاقب عليها القانون بعقوبات بدنية أو مخلة بالشرف.
[44] - عبد الله سليمان: ''شرح قانون العقوبات الجزائري''، القسم العام، دار المطبوعات الجزائرية، الجزائر العاصمة، ث333.
[45] - أنظر الكتاب الثالث، الجزء الأول، الباب الأول الخاص بالجنايات والجنح ضد أمن الدولة من القانون الجنائي المغربي رقم 1.59.413 منشور بالجريدة الرسمية عدد 2640 مكرر.
[46] - أورد المشرع المغربي أبوابا أخرى منها:
الجنايات والجنح ضد أمن الدولة
الجنايات والجنح المتعلقة بالأموال
الجنايات والجنح ضد سلامة الدولة الخارجية
[47] - يقصد بالحدث: الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد الجنائي، وقد تجنب المشرع المغربي، كأغلب التشريعات العربية، تحديد المقصود بالحدث بل اكتفى بالإشارة في عدة نصوص من القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية ومدونة الأسرة إلا ما يرادف هذه الكلمة: صغير، قاصر،صبي...
للتوسع في الموضوع: دة. بهيجة مشكور:''الحماية القانونية للطفل المغربي''، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الحقوق مراكش سنة 1997.
د. محمد بازي:''الحماية الجنائية للأحداث في التشريعات العربية''، مجلة المحامي عدد 34 يناير 1999، ص70.
[48] - محمد الأزهر..
[49] - د. عبد اللطيف كداي: ''إجراءات معاملة الأحداث الجانحين في التشريع المغربي''، مجلة القصر، العدد السادس عشر (16)، سنة 2007، ص45.
[50] - د. محمود نجيب حسني، مرجع سابق، ص542.
[51] - وتعرف أيضا بعوارض المسؤولية الجنائية أو الأسباب التي تؤثر فيها، د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص308.
[52] - د. محمد بازي، مرجع سابق، ص78.
[53] - يقصد بالتوبيخ توجيه اللوم إلى الحدث عن فعل ارتكبه في نطاق إرشادي وإصلاحي، وبناء على ذلك فإن هذا التدبير يحتوي على توجيه للحدث وكشف عما ينطوي عليه عمله من خطورة يمكن أن تؤدي إلى الجريمة ومن ثم فإن اختيار العبارات والطريقة التي يتم بها التوبيخ متروك أمره للقضاء في حدود أن يترك أثره الإيجابي على الحدث دون أن يكون له الانعكاس السلبي على نفسيته.
د. محمد فاضل:''إصلاح الأحداث الجانحين''، دار الرشاد للنشر، ص246.
[54] - أنظر القواعد الخاصة بالأحداث التي خص بها المشرع المغربي هذه الطائفة من الجانحين من القسم الثاني من الكتاب الثالث من قانون المسطرة الجنائية 22.01 الصادر في 03 أكتوبر 2002، الجريدة الرسمية عدد: 5078 بتاريخ 30 يناير 2003، ص315.
[55] - جاء في المادة 481 من ق.م.ج والتي عدلت وتممت بالقانون رقم 31.10، المنشور بالجريدة الرسمية عدد: 5975 بتاريخ 05 شتنبر 2011، بحيث كانت هذه المادة قبل التعديل تنص على الآتي:''يمكن لغرفة الأحداث...' أما بعد التعديل فأصبحت تنص على:''يمكن للمحكمة أن تتخذ في شأن الحدث واحدا أو أكثر من تدابير الحماية أو التهذيب الآتية: 1- تسليم الحدث لأبويه أو للوصي عليه أو للمقدم عليه أو لحاضنه أو لشخص جدير بالثقة أو للمؤسسة أو للشخص المكلف برعايته، 2- إخضاعه لنظام الحرية المحروسة، 3- إيداعه في معهد أو مؤسسة عمومية أو خاصة للتربية أو التكوين المهني ومعدة لهذه الغاية، 4- إيداعه تحت رعاية مصلحة أو مؤسسة عمومية مكلفة بالمساعدة، 5- إيداعه بقسم داخلي صالح لإيواء جانحين أحداث لا يزالون في سن الدراسة، 6- إيداعه بمؤسسة معدة للعلاج أو التربية الصحية، 7- إيداعه بمصلحة أو مؤسسة عمومية معدة للتربية المحروسة أو للتربية الإصلاحية.
يتعين في جميع الأحوال أن تتخذ التدابير المشار إليها أعلاه لمدة معينة لا يمكن أن تتجاوز التاريخ الذي يبلغ فيه عمر الحدث ثمان عشرة سنة ميلادية كاملة''.
[56] - د. محمد بازي. مرجع سابق، ص133 و 136.
[57] - جاء في المادة 482 من ق.م.ج:''يمكن بصفة استثنائية....''.
[58] - قرار عدد 736/3 المؤرخ في 14/04/2004، ملف جنحي عدد 2094/04، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، العدد المزدوج 64/65 سنة 2006، ص411.
[59] - دة. لطيفة المهداتين مرجع سابق، طبعة 2011، ص50.
[60] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص57،56،55.
[61] - د. محي الدين أمزازي، ''جدوى بدائل العقوبات الحبسية القصيرة المدى''، المجلة العربية للدفاع الاجتماعي عن الحرية يناير 1984 العدد 17 ص8.
[62] - دة. لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص85.
[63] - د. حاتم حسن موسى بكار، ''القاضي الجنائي في تقدير العقوبة والتدابير الاحترازية'' محاولة لرسم معالم نظرية عامة، منشأة المعارف، طبعة 2002.
[64] - د. محمود نجيب حسني، ''شرح قانون العقوبات'' القسم العام، الطبعة الخامسة سنة 1982، ص79.
[65] - د. عبد الواحد العلمي، مرجع سابق، ص42.
[66] - قرار عدد 348 الصادر بتاريخ 24/02/1966، مجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 3 ص98.
[67] - ملف جنائي عدد 427/503//856 الصادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 27 نونبر 1986. أوردته دة.لطيفة المهداتي (بالمرجع السابق) ص71.
[68] - ملف جنحي تلبسي عدد 51/04 صادر بتاريخ 13/12/2004 عن المحكمة الابتدائية بالسمارة، غير منشور.
[69] - دة.لطيفة المهداتي، مرجع سابق، ص93.
[70] - قرار عدد 737/1 مؤرخ في 22/05/2002، أوردته دة.لطيفة المهداتي (بالمرجع السابق)، ص97.
[71] - د. محمد خلف، ''مبادئ علم العقاب'' الشركة العامة للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، ص270.
[72] - دة.لطيفة المهداتي،مرجع سابق، ص...
[73] - دة.لطيفة المهداتي،مرجع سابق، ص... 
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات