القائمة الرئيسية

الصفحات


فن الإلقاء


مقدمــة  


فن الإلقاء، ليس مفهوما جديدا، فقد وجد بوجود البشرية، وتطور بتطور المجتمعات، فهو من ضرورات الحياة العامة، فمادام الإنسان لا يستطيع أن يعيش وحيدا منعزلا عن الآخرين، فهذا يعني أنهم  سيتبادلون الحديث ولن يكونوا دائما على وفاق واتفاق، بل سيختلفون في الآراء والمعتقدات ... ويحاول بعضهم إقناع بعض، والنبيه منهم هو من سيستميل الطرف الآخر المخالف ويؤثر فيه، بالحجة والدليل، بالأسلوب الجميل، وبالعبارة الواضحة المقنعة، المثمرة للاستجابة، إذ لا ثمرة تجنى ولا فائدة ترجى من خطاب غير مؤثر ومقنع، وكل هذا لن يتأتى إلا بالإلقاء الجيد الناجح.
ويمكن تعريف فن الإلقاء بأنه نقل الأفكار إلى المتلقين بطريقة شفاهية مؤثرة تجعلهم يحسون بما يخالج شعوره، والهدف منه هو إيصال الأفكار والتفاعل معها.
ففن الإلقاء له أهمية كبيرة، تتجلى في كونه سلاح عظيم في يد كل من يريد الوصول إلى قلوب وعقول الناس أيا كان مقصده وغايته . وهو نعمة عظيمة، ونعمة كبيرة أفرد لها العلماء فصولا وأبوابا، وجعلوها فنا خاصا له معاييره وخصائصه، وابتدعوا له مهارات عديدة، وأساليب فريدة، ولئن سبقنا الغرب إلى وضع نظم وأصول هذا الفن، فقد فاق العرب الأقدمون أمم الدنيا في حسن الخطابة وروعة الأداء؛ فالأمثلة لدى العرب والمسلمين أكثر من أن تحصى، وأروع من أن توصف، فقد أتقنوا حسن أدائها والتعامل معها  ... وقد ازدادت أهميته بعد أن أصبح بإمكان الفرد أن ينقل أفكاره إلى ملايين الناس بيسر وسهولة عن طريق وسائل الإعلام المتاحة.
وينقسم فن الإلقاء إلى ثلاثة أنواع هي: الإلقاء القرائي أو التقريري –الإلقاء الحفظي- ثم الإلقاء الارتجالي.
فالأول يفيد إلقاء نص مكتوب، ونجد هذا النوع في المحاضرات وفي المقالات الثقافية ... ويجب على القارئ أن يكون مترويا، هادئا، بعيدا عن الانفعال، وقليل الحركة.
والثاني نجده في المسرح، الشعر، والنصوص النثرية، وهنا يعتمد الملقي على ذاكرته وحفظه الجيد ... حيث يتم التفاعل مع الجمهور عن طريق الصوت، والملامح، والحركة، حتى يتم تشخيص النص على نحو جيد.
أما النوع الثالث، فيقصد به قول ما يجول في الفكر بشكل مباشر، وهذا النوع يجد نفسه في المناسبات الاجتماعية، ويعتمد على الشخصية القوية، وسرعة البديهة، والقدرة اللغوية ... إلا أن هذا الصنف من الإلقاء يحتاج إلى تدريب طويل، فلا يمكن أن يكون الشخص مرتجلا جيدا من أول مرة .
والارتجال هو أجمل أنواع الإلقاء لاستناده إلى الحرية والابتكار ... وغيرها، مما يجعله أكثر تأثيرا من الأصناف الأخرى.
ومنه، يتبين أن الخطيب كالمصباح، ينير الطريق، ويكشف الدرب، ويهدي الضال، ويقول كلمة الفصل .
من خلال هذا التقديم المتواضع فالإشكالية التي يمكن طرحها تتمثل في أنه إذا كان كل منا يستطيع أن ينقل أفكاره أو أفكار غيره إلى السامعين أو المشاهدين عن طريق الكتابة أو الإلقاء، فإننا لسنا جميعا قادرين على إتقان هذا الفن، فما هي المهارات والتقنيات التي يتعين امتلاكها والتحلي بها حتى نصير مبدعين ومجيدين له؟ وما دور هذا الفن في تبليغ الرسالة؟ وإلى أي حد يمكن القول أن للمنهج العلمي دور في نجاح هذا الأخير؟
للإجابة عن هذه الإشكالية سنتولى التقسيم التالي :


 المبحث الأول : تقنيــات فــن الإلقــاء ومواصفات الملقي الماهر

 المبحث الثاني : دور المنهـج العلمـي فـي تجويـد فـن الإلقـاء


المبحث الأول : تقنيـات فــن الإلقــاء ومواصفـات الملقـي المـاهر 

ليس كل من يقوم بالإلقاء متقن له ويتفنن فيه، بل إن للإلقاء مهارات منها ما هو مرتبط بطريقة الكلام ومنها ما يتعلق بالتعبير الجسدي (مطلب أول)، ومنها ما يجب أن يتصف به الملقي الناجح (مطلب ثان).

المطلب الأول : تقنيــات فــن الإلقــاء 

ليس للفكرة وجود في الواقع إلا بنقلها للغير من خلال عملية التواصل، لذلك فكلما كانت للمتلقي مهارات وتقنيات تواصلية، كلما كان أقرب إلى الإقناع وإيصال ما يريده للطرف الآخر.
وللوصول إلى هذا المبتغى لابد من توفر تقنيات كلامية (أولا)، وتقنيات جسدية (ثانيا).

أولا : التقنيــات الكلاميــة 

سنتعرض في هذا الصدد إلى معدل سرعة الكلام (أ)، ثم إلى حجم الصوت ونوعيته (ب).

أ‌- معـدل سرعـة الكـلام 

لا شك أن التحكم في سرعة الكلام يلعب دورا محوريا في إتقان الإلقاء، فحتى تكون الرسالة واضحة فإن الملقي يجب عليه أن يحرص على الوسطية والاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، بمعنى أن لا يسرع ولا يبطئ. فالسرعة في الخطاب تؤدي إلى عدم استيعاب العرض أو المحاضرة، بحسب الأحوال، حيث يتم عرض أكبر قدر من المعلومات في ظرف وجيز، وهذا ما ينعكس سلبا على المتلقي. وإذا أبطأ فإنه من الطبيعي أن يعم الملل بسبب الرتابة، إضافة إلى ذلك فالكلام ينبغي أن يكون مرنا واضحا وسهلا حتى يتم استيعابه.
كما أن خير الكلام ما قل ودل، فالشخص الكثير الكلام إما أنه لا يعرف ما يقول أم أن له شهوة الكلام، فما قل وكفى خير مما كثر وألهى.

ب‌- حجـم الصـوت ونوعيتـه 

كلما كان للملقي صوت فعال كلما كان تأثيره أكبر، لذلك فالإلقاء الأفضل هو الذي يكون فيه حجم الصوت متناسبا مع جوهر الخطاب، ومعلوم أن لكل واحد ميزة في صوته، فهناك الضخم، والناعم، والحاد ... وهذا الاختلاف هو ظاهرة صحية، ويمكن لكل شخص يريد تحسين صوته أو قدرته على التأثير أن يتدرب باستمرار .
وإذا كان اختلاف الأصوات شيء طبيعي، فإن ما يتعين الالتزام به هو احترام النبرات الصوتية للأفكار الواردة في الموضوع، بمعنى أن يرتفع الصوت في كل نقطة تثير الانتباه.

ثانيا : التقنيــات الجسديــة 

لا تقل الحركة أهمية عن محتوى الحديث، فالناس يتذكرون ما يرونه أكثر مما يسمعونه، كما أن الإيماءات والإشارات يميل الناس إلى تفسيرها بشكل تلقائي وطبيعي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن للحركة أثر قوي كتحريك اليدين (ج)، والانتقال من مكان لآخر (ب)، وتوزيع النظرات وانفعالات الوجه (أ).

أ‌- انفعـالات الوجـه وتوزيـع النظـرات 

يتعين في الشخص الملقي أن يكون متأثرا بما يقول حتى يستطيع التأثير في الآخرين، ففاقد الشيء لا يعطيه وهو ما يتبين من خلال انعكاس كلامه عليه، فهو إن كان يلقي خطابا محزنا يجب أن ترتسم علامات الحزن على وجهه، وإن توقف عند بعض الفقرات الباعثة للسرور، فيجب أن يتهلل محياه.
كما أنه ينبغي على الملقي أن لا تركز نظراته على فئة دون أخرى، بل يجب أن تشمل الجمهور بأسره، حتى لا يحس بعضهم بالتهميش وعدم الاهتمام، بل يجب عليه أن يشعر كل واحد من المتلقين بأنه هو المعني بالخطاب، هذا إضافة إلى أن النظر في أعين المستمعين يوحي بشكل ضمني على الثقة بالنفس.

ب‌- الانتقــال (الذهاب والإياب) 

من العناصر التي تشد انتباه المتلقي هي تحرك الملقي داخل مكان العرض أو المحاضرة، لأن جلوسه على الكرسي طوال الوقت يجعل الإلقاء مملا، وهذا المشي بدوره يجب أن لا يكون سريعا، وأن يكون مستوى الرأس مرفوع وموجه إلى الجمهور، ولا يصح أن يدير ظهره إلى هذا الأخير أو إلى جزء منه.

ج- حركــة اليديــن 

يجب أن تتناسق حركة اليدين مع الكلام لكي يحصل الفهم الصحيح للمعنى الذي يرغب الملقي في تبليغه، كما أنه يتعين أثناء العرض أو الإلقاء أن لا يقوم الملقي بحركات بيديه تجعل الجمهور ينشغل بها لا بما يقول، وهذا ما ينطبق على الشخص الذي يمسك الأوراق طيلة فترة العرض ويعيد ترتيبها مرات ومرات، فهو بهذا يكسر تركيز الطرف الآخر ويبعده عن متابعة الموضوع.
هذه بعض التقنيات التي يقتضيها فن الإلقاء، فما هي المواصفات اللازم توفرها في الملقي ؟

المطلب الثاني : مواصفات الملقي الماهر 

يجب على الشخص الذي يود إلقاء العرض أن يكون في مستوى الاختيار، ومحط إعجاب، وترحيب، وتقدير من طرف المتلقين، ولا يمكن أن يحظى بذلك إلا إذا كان له من المواصفات ما يجعله في الدفعة الأولى لكي يتقن الخطاب، ويمكن تلخيص أهم هذه المواصفات فيما يلي:

أولا : الإعـداد الجيـد والتخطيــط والتجهيــز

إن تحضير وإعداد الموضوع المزمع إلقاءه هي الطريقة الأفضل للوصول إلى المستمعين وشد انتباههم ، فالملقي المهيء للموضوع هو حتما الأكثر تأثيرا والأكثر إقناعا للمتلقي. وهذا ما يمكن أن نتذوقه بشكل ملموس من خلال المداخلات التي تثار في الندوات، والمناقشات التي تشهدها البرامج وغيرها، فالشخص الضابط لما يقول هو الذي تكون الاستفادة منه في أعلى مستوياتها.

ثانيا : المهـارات اللغويـة والتلاعـب بالكلمـات 

فن الإلقاء هو فن النطق بالكلام على نحو يوضح ألفاظه ومعانيه ، لذلك فإنه من الواجب امتلاك قدر كبير من المفردات والكلمات والتعبير عنها بصورة فنية رائعة، فهذه الأخيرة لها قوة خارقة، لأنها تمكن الواقف على منصة العرض من التفاعل مع كل الأطياف كيفما كانت تلويناتها، فاللغة تلعب دورا مهما في التبليغ، ويجب اعتمادها حسب المقامات، اتباعا للقولة الشهيرة "لكل مقام مقال"، فالشخص الذي يريد أن يتواصل مع آخر مثقف لا يستعمل اللغة نفسها مع غيره غير المثقف، كما أن من يريد إقناع طرفا مسنا يتعين عليه أن ينتقي الكلمات المناسبة لذلك والتي تكون على قدر كبير من الأدب والاحترام.
ودليلنا في هذا أشرف خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لم يقم له خصم، ولم يفحمه خطيب، بل كان يبذل الخطب الطوال بالكلام القصير، وكان يلتمس إسكات الخصم بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق .

ثالثا : الثقــة بالنفــس

أزمتنا في الإلقاء هي أزمة ثقة في القدرات وعدم الإيمان بما يتم قوله بالدرجة الأولى، وهذا هو السبب في عدم وجود تفاعل بين الملقي والمتلقي في الكثير من الأحيان، لذلك فإن تجنب الخوف من الآخر، والإقبال عليه من دون تردد هو السبيل للتفاعل معه، لأن الواثق من نفسه هو الأكثر وصولا إلى قلوب الجمهور وعقولهم، كما أن صاحب الشخصية القوية الثابتة المؤمن بما لديه وما يقوله هو من يحقق النتائج والأهداف . وقد ورد في أحد الأقوال "إذا كنت فعلا تؤمن بذلك فعندها سيتأثر الجمهور بذلك".

رابعا : التحكم في الوقت

إن التحكم في الوقت وعدم مراعاته هو ما يفتقر إليه الخطباء ومن الطبيعي جدا أن المتلقي لن يستطيع التفاعل مع الملقي لوقت طويل، وعلما أن السيطرة على الوقت هي التي تجعل المتلقي مركزا، بمفهوم المخالفة أنه كلما طال الوقت تشتت انتباه الجمهور، فالمطلوب إذا هو إجازة الموضوع ما أمكن وتناول المحاور الأكثر أهمية، وتجاوز العناصر التي تبدو غير مهمة، لأن الوقت المخصص لصاحب العرض أو المحاضر هو أثمن ما لديه.

المبحث الثاني : دور المنهـج العلمـي فـي تجويـد فــن الإلقــاء 

لنجاح أي عمل في الحياة كيفما كان نوعه فلابد من اعتماد منهج علمي، فلا أحد يجادل أو يناقش في أهمية هذا الأخير، نظرا لما له من دور في تنمية القدرة على التفكير، والأسلوب والطريقة في التعامل مع شتى الميادين.
إن موضوع فن الإلقاء له علاقة وطيدة بالمنهج العلمي، فإذا كان الأول يعتبر تقنية وآلية لإيصال الفكرة إلى الآخرين، فإن الثاني بدوره يعتبر فنا وعلما، فهو فن لأنه يدل على قدرات وملكات إحساسية وتأملية وأخلاقية وذهنية خارقة ومبدعة، وهو علم لأنه يتطرق للمناهج ويعتمد عليها،لذلك يتعين على الملقي الناجح أن يعتمد على نوع معين من المناهج حتى يمكن أن تصل الفكرة إلى المتلقي  .
وتختلف المناهج العلمية المعتمدة باختلاف نوع الدراسة محل التحليل، وقد انقسمت الآراء حول تقسيمات هذه المناهج إلى مناهج أصلية تتمثل في: المنهج الاستدلالي – المنهج التاريخي – المنهج التجريبي – المنهج الدياليكتيكي. ومناهج الفرعية تكمن في المناهج الأخرى التي لم يتم الاتفاق حول اعتبارها مناهج أصلية، ومن بينها المنهج الوصفي، والتحليلي، والإحصائي، والمقارن وغيرها من مناهج البحث العلمي الأخرى .
وعليه سنقوم بتقسيم هذا المبحث إلى مطلبين نتعرض في (الأول) إلى المناهج العقلية، وفي (الثاني) للمناهج الإجرائية.

المطلب الأول : المنــاهج العقليــة

ينضوي تحت هذه الطائفة مجموعة من المناهج، ولعل أهمها المنهج الاستدلالي، والمنهج الاستنباطي، والمنهج الاستقرائي، وهذا الصنف يقوم على التفكير والتأمل واكتشاف الحقائق.

أولا : المنهــج الاستدلالــي

يقصد بالاستدلال أنه : "البرهان الذي يبدأ من قضايا مسلم بها، ويسير إلى قضايا أخرى تنتج عنها بالضرورة، ودون الالتجاء إلى التجربة، وهذا السير قد يكون بواسطة القول أو بواسطة الحساب" .
يقوم هذا المنهج على مقومات تتجلى في البديهيات، والمسلمات أو المصادرات، ثم التعريضات. والشيء البديهي هو الصادق بلا برهان، والمسلمات هي فكرة يصادر على صحتها ويسلم بها تسليما، وهي أقل يقينا من البديهيات. أما التعريفات فهي تحديد لمفهوم الشيء، وهو قضية أولية تبنى من خلاله كل الاستدلالات التي توصل إلى نتائج غير متناقضة مع العلم والواقع، وهو على خلاف البديهيات والمسلمات لا يعتبر قضية عامة ومشتركة، فهو يغص الشيء وحده دون غيره .
وللمنهج الاستدلالي أدوات يعتمد عليها تتمثل أساسا في البرهان الرياضي، والقياس، وكذا التجريب العقلي، ثم التركيب.
فالبرهان الرياضي هو عملية منطقية تنطلق من قضايا أولية صحيحة إلى قضايا أخرى ناتجة عنها بالضرورة، وفقا لقواعد منطقية خالصة. ويصفه العلماء بأنه مبدع وخلاق؛ لأن النتائج المتوصل إليها لم تشتمل عليها المقدمات لا ضمنيا ولا صراحة، فهو يأتي دائما بحقيقة جديدة .
والقياس هو عملية عقلية منطقية تنطلق من مقدمات مسلم بها أو من مسلمات إلى نتائج افتراضية غير مضمونة صحتها .
والتجريب العقلي هو قيام الباحث داخل عقله بكل الفروض والتجارب التي يعجز عن القيام بها في الخارج.
أما التركيب، فهو عملية عقلية عكسية تبدأ من القضية الصحيحة المعلومة الصحة إلى استخراج كل النتائج المترتبة عنها .

ثانيا : المنهــج الاستنبـاطـي

يقصد بالاستنباط لغة الاستخراج، أما في معناه الاصطلاحي فهو الانتقال من العام إلى الخاص. وبالاستناد إلى هذه الفكرة، يتبين أن المنهج الاستنباطي يبدأ البحث بالاعتماد على فكرة عامة وهي ما تسمى بالمقدمات. وهي قد تكون فكرة مبرهن عليها أو بديهية أو غيرها، ثم تستنبط منها النتائج الجزئية الخاصة وذلك وفق المنطق الشكلي .
وبالرجوع إلى مؤلف "الجمهورية" للفيلسوف أفلاطون نجد أن استعمال المنهج الاسنباطي يعود إليه. ويعرف المنهج الاستنباطي في الدراسات القانونية بالمنهج التحليلي أو اسم القياس. ومن تطبيقات المنهج الاستنباطي أن يستند الباحث في مجال القانون الجنائي إلى قواعد العامة ليرى مدى إمكانية تطبيقها على الظواهر الإجرامية الحديثة مثل جرائم الاعتداء على الكمبيوتر ... .
من كل ما سبق يتبين أن المنهج الاستنباطي ينبع من استفسار علمي لدى الباحث، فيقوم بجمع الحجج والأدلة والمعلومات وتحليلها بغرض تأكيد الاستفسار أو تنفيذه، وكل هذا يدور في فكر الباحث بعيدا عن الواقع وهو ما يجعله يختلف عن المنهج الاستقرائي.

ثالثا : المنهــج الاستقرائــي

خلافا للمنهج الاستنباطي فإن المنهج الاستقرائي ينتقل فيه الباحث من الخاص إلى العام أي من الجزء إلى الكل، وقد سبق وأن أخذ سقراط بهذا الأسلوب دون الإلمام به، لما توصل إلى نوعين هما: "الاستقراء التام ثم الاستقراء الحدسي" ، ليظهر مع نظرية داروين ، وأخذ معنى أكثر دقة عند دافييد هيوم David Hume الذي لخصها بأنها: "قضايا جزئية تؤدي إلى وقائع أو ظواهر، وتعتبر مقدمة إلى قضايا عامة، ويمكن اعتبارها نتيجة تشير إلى ما سوف يحدث" .
ويقوم المنهج الاستقرائي على الملاحظة، والتجربة، ووضع الفروض والبرهان عليها باستخلاص القوانين عامة.
وبالرغم من المكانة الهامة للمنهج الاستقرائي في الأبحاث، إلا أنه تعرض لعدة انتقادات من أهمها: أن هذا المنهج ينصب اهتمامه على دراسة وملاحظة الوقائع والظواهر المنفردة –أن الاستقراء يعمم فقط ما هو متشابه في الأشياء، ولا يستطيع ملاحظة التناقضـات والاختلافـات الداخلية التي تعتبر مصدر تطور الأشياء ... .
إذا كان هذا ما يتعلق بالمناهج العقلية، فماذا عن المناهج الإجرائية؟

المطلب الثاني : المنــاهج الإجرائيــة 

لا يعتمد الملفي والباحث وهما بصدد تحضيرهما للعروض أو المحاضرات أو الندوات أو الأبحاث على المناهج العقلية، بل قد يعتمدان على مناهج أخرى تنضوي ضمن الأسلوب الإجرائي، مثل المنهج التاريخي، والمنهج الوصفي، والمنهج المقارن.

أولا : المنهــج التـاريـخـي 

يقوم المنهج التاريخي بدراسة الحوادث والوقائع الماضية، لكي يفهم الحاضر على ضوء أحداث الماضي، وقد أعطيت لهذا المنهج عدة تعريفات منها أنه: "الطريقة التي تعمل على تحليل وتفسير الحوادث التاريخية، كأساس لفهم المشاكل المعاصرة، والتنبؤ بما سيكون عليه المستقبل" .
كما يمكن تعريف المنهج التاريخي بأنه تلك الدراسة التي تنبني على استحضار أحداث الماضي بتجميعها وتأهلها وتحليلها بهدف الوقوف على مضامينها، بكيفية علمية تساعد على فهم تأثيرها على الواقع الحالي للمجتمع ولأخذ العبر منها مستقبلا .
وللمنهج التاريخي مصادر منها ما هو أصلي ومنها ما هو ثانوي، فالمصادر الأصلية هي المصادر المعاصرة للحدث أو للظاهرة وتشمل الوثائق التاريخية الأصلية أو الأولية إلى جانبها الآثار التاريخية . أما المصادر الثانوية، هي التي يتم اللجوء إليها عند تعذر توفر المصادر الأصلية أو الأولية، وقد تكون المصادر الثانوية المشتقة أو المنقولة والمقتبسة من الأصل التاريخي من الدرجة الأولى أو من الدرجة الثانية أو من الدرجة الثالثة ... وذلك وفقا لدرجة قربها أو بعدها من المصدر الرئيسي الأصلي وتبعا لتعدد المراجع الواسطة بينها وبين العدد أو الوثيقة الأصلية .
فبواسطة المنهج التاريخي نتمكن من معرفة مراحل وعصور ماضي التاريخ الإنساني في الحقب الغابرة، كالحضارة البابلية، والحضارة الرومانية ...
ومع كل ذلك تعرض المنهج التاريخي لعدة انتقادات منها: افتقار المنهج التاريخي إلى درجة كبيرة من الموضوعية، وذلك لعدم القدرة أو الإمكانية لإخضاع كافة الأحداث الماضية للتجريب أو التكرار ... .

ثانيا : المنهـج الوصفـي 

المنهج الوصفي هو الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى جمع الحقائق والبيانات عن ظاهرة أو موقف معين مع محاولة تفسير هذه الحقائق تفسيرا كافيا .
ويشغل المنهج الوصفي مكانة هامة في العلوم الاجتماعية؛ لأنه يتكيف مع ظروف الظاهرات الاجتماعية المتسمة بعدم الثبات والتغير، وتعدد المؤثرات الفاعلة فيها . وله مجموعة من التسميات كالمنهج الوصفي التحليلي، والدراسات المعيارية ... وقد نشأ منهج البحث الوصفي عند الغرب في نهاية القرن 18 م، وقد ارتبطت نشأته بعمليات المسح الاجتماعي وبالدراسات المبكرة في فرنسا وإنجلترا، وكذلك بالدراسات الأنتروبولوجية في الولايات المتحدة. وتطور في القرن 19 م من خلال الدراسات الاجتماعية التي قام بها (فريدريك لوبلاي) بإجراء دراسات تصف الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية للطبقة العاملة في فرنسا. لكن التطور الهام للمنهج الوصفي كان في القرن 20 .
ويمكن إجمال بعض أهداف المنهج الوصفي في القيام بتوضيح الظواهر الأخرى وعلاقاتها بالظاهرة المدروسة، مقارنة الظاهرة محل الدراسة بالظواهر الأخرى المحيطة بها ... كما أنه لتحقيق هذه الغايات لابد من طرح مجموعة من الأسئلة مثل : ما هو الوضع الحالي لهذه الظاهرة؟ ما هي النتائج المتوقعة لدراسة هذه الظاهرة؟  ...

ثالثا : المنهـج المقـارن

المنهج المقارن هو ذلك المنهج الذي يعتمد على المقارنة في دراسة الظاهرة حيث يبرز أوجه الشبه والاختلاف فيما بين ظاهرتين أو أكثر، ونجد تطبيق هذا المنهج كثيرا في الدراسات المتعلقة بالعلوم القانونية. كما يصلح هذا المنهج للتطبيق على كافة علوم الاجتماع .
ويعرف أحد الفقهاء  المنهج المقارن بأنه مقابلة الأحداث والآراء بعضها بالبعض الآخر للكشف عما بينها من علاقة سواء أكانت وجه شبه أو اختلاف.
وكمثال على تطبيق هذا المنهج نذكر ما لجأ إليه اليونان من دراساتهم للأنظمة السياسية عن طريق المقارنة، إذ قام أرسطو  بمقارنة 158 دستورا من دساتير المدن اليونانية، ويعتبر ذلك ثورة منهجية في علم السياسة .
وللمقارنة صنفان، مقارنة اعتيادية ومقارنة مغايرة، فالأولى تقوم على تحديد أوجه الشبه أكثر من تحديد أوجه الاختلاف. أما الثانية فتحدد أوجه الاختلاف أكثر من أوجه الشبه.
عموما، هذه بعض المناهج التي يتعين اتباعها عند التحضير لألقاء أي عرض أو محاضرة حتى يكون هذا الأخير على أحسن وجه، إلا أن هذه المناهج قد تعترضها بعض الصعوبات يمكن إجمالها في العائق الإبستمولوجي والعائق السيكولوجي.

خــاتمة :

صفوة القول، إن فن الإلقاء ما هو إلا خطوة في طريق بناء الذات، من خلال التدريب والممارسة العملية للمهارات حتى تصقل، فالشخص الذي يستطيع أن يترك أثرا في قلوب الناس أو عقولهم لا يمكن أن يكون إلا ذو شخصية متميزة.
فكما يقول الخطيب المشهور "زج زجلر" سواء أرضينا أو أبينا فإن الذين يحسنون الحديث أمام الناس يعتبرهم الآخرون أكثر ذكاء، وأن لديهم مهارات قيادية متميزة عن غيرهم. وهو نفس الاتجاه الذي سار عليه "دروموند دوسكور" حين قال: "لو قدر علي أن أفقد كل مواهبي وملكاتي، وكان لي اختيار في أن أحتفظ بواحدة فقط، فلن أتردد في أن تكون هذه هي القدرة على التحدث، لأنني من خلالها سأستطيع أن أستعيد البقية بسرعة".

لائحة المراجع

الكتب
طارق السويدان: "فن الإلقاء الرائع"، شركة الإبداع الفكري للنشر والتوزيع – الكويت، الطبعة 5، 2008.
طارق السويدان: "فن الإلقاء الرائع"، شركة الإبداع الفكري – الكويت، الطبعة الثالثة، 2004.
عبد الرزاق عسر: الهيئة المصرية ع للكتاب، 1993.
محمد العروصي: "المرشد في المنهجية القانونية"، مطبعة مرجان، الطبعة الأولى، 2014.
عبد الرحمان بدوي: "مناهج البحث العلمي" ، الطبعة الثالثة، وكالة المطبوعـات – الكويت، 1977.
احميدوش مدني: "الوجيز في منهجية البحث القانوني"، مطبعة جودة – الرباط، الطبعة الأولى، 2012.
سيد الهواري: "دليل الباحثين في كتابة التقارير ورسائل الماجستير والدكتوراه"، مكتبة عين شمس، القاهرة، مصر 1975.
محمد عمار عوابدي: "مناهج البحث العلمي وتطبيقاتها في ميدان العلوم القانونية والإدارية"، ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، 1987.
ليلى عبد الوهاب: "مناهج وطرق البحث الاجتماعي، أصول ومقدمات"، المكتب الجامعي الحديث، الأزاريطية – الإسكندرية، طبعة 2000.
إبراهيم أبراش: "المنهج العلمي وتطبيقاته في العلوم الاجتماعية"، مطبعة بابل، 1999.
جمال جمال الدين ، الانسان الفعال ، دار الفكر دمشق 
بابليس وسيلجمان ، قوة التفكير الايجابي ، ترجمة واعداد .هند رشدي ، كنوز للنشر والتوزيع .
إبراهيم الفقي ، فن التعامل مع الناس .
إبراهيم الفقي ، فن التسلل إلى قلوب الناس .
المواقع الإلكترونية
http :uqu.edu.sa/page/ar/93195129 
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات