مقدمة:
شكل صدور قانون " مدونة الأسرة" بالإضافة إلى أهمية التشريعية الكبيرة – حدثا حقوقيا بامتياز، بالنظر للأهداف العميقة التي توخى المشرع تحقيقها من خلال سنه، والمتمثلة بالأساس في تأهيل الأسرة المغربية على ضوابط ذات بعد حداثي معاصر وإعادة تأسيس العلاقات الاجتماعية بين مختلف مكوناتها على أساس قواعد العدل والإنصاف والمساواة في الحقوق والواجبات بالنجاعة التي تضمن استقرارها واستمراريتها وفق رؤية تشاركية تقوم على حفظ كرامة الزوجين وصيانة حقوق الأطفال دون تمييز على أي أساس من الأسس.
ومن مظاهر تميز مدونة الأسرة، جودة موادها القانونية التي زاوجت بين الأصالة الشرعية الدينية المستمدة من قواعد الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة، وبين الحمولة القانونية والحقوقية النوعية بمفاهيمها الكونية كما هي متعارف عليها عالميا المؤطرة بمقتضى الأعراف والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب .
وفي هذا الإطار تندرج مواد القسم الثامن من الكتاب السادس المنظمة لأحكام الوصية الواجبة وبالخصوص المادة 369 منه التي طالها تعديل جوهري كبير شكل بصدق ترجمة عملية للأفكار التي تضمنتها ديباجة مدونة الأسرة، وتفعيلا للالتزامات الدولية للمغرب التي تعهد من خلالها بتكييف مواده التشريعية مع مضامين الاتفاقيات الدولية وبالخصوص في النقطة المتعلقة بالقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة وحماية حقوق الطفل .
ودون التطرق للإختلافات الفقهية التي أثيرت حول مدى مشروعية الوصية الواجبة من عدم مشروعيتها والتي حسمها المشرع المغربي بالإنتصار للإتجاه المنادي بمشروعيتها من خلال تنصيصه عليها صراحة ضمن مقتضيات مدونة الأسرة ، فإنه بالرجوع إلى دراسة هذه الأحكام كما تناولها المشرع المغربي تظهر جليا القيمة الحقوقية المضافة التي جاءت به مقتضيات المادة 369 من مدونة الأسرة بالمقارنة مع مقتضيات المادة266 من النص القديم الذي كان منصوصا عليه في مدونة الأحوال الشخصية الملغاة و التي كانت تحصر الفئة المستفيدة من الوصية الواجبة في أحفاد الابن الذكر المتوفى قبل والده أو والدته ويحرم أحفاد الجد أو الجدة من ابنتهم المتوفاة في حياتهما متأثرا في ذلك بالقانون السوري، في حين أن المادة 369 بصيغتها الجديدة أصبحت تنص على أنه " من توفي وله أولاد ابن أو أولاد بنت ومات الابن أو البنت " وبالتالي رفعت ضابط التمييز على أساس الذكورة والأنوثة وجعلت حق الاستفادة من الوصية الواجبة يشمل الأحفاد من الأبناء من كلا الجنسين تطابقا مع اتجاه المشرع المصري وبالتالي رفعت حرجا حقوقيا كبيرا كان يخدش وجه التشريع الوطني بالمقارنة مع الشرعية العالمية لحقوق الإنسان.
والوصية الواجبة قبل أن تكون حدثا حقوقيا على النحو المشار إليه سلفا ، فهي منتوج تشريعي إسلامي خالص يجد أساسه في القرآن الكريم اهتدى إليه العلماء الحاليون بفكرهم الإجتهادي المتنور وبالتالي أصبح جليا أن الفقه الإسلامي كان له السبق التاريخي في دراسة أحكامه قبل القوانين الوضعية المعاصرة ومنها المشرع المغربي.
والملاحظ أن المشرع المغربي رغم تناوله لأحكام الوصية الواجبة ضمن الكتاب السادس المخصص للميراث إلا أن هذه الوصية كما ذهب إلى ذلك أستاذنا عمرو لمزرع في كتابه الشعاع الفائض في علم الفرائض ليست ميراثا محضا – كما قد يتبادر للأذهانء و لاوصية خالصة فهي تشبه الميراث في وجوه وتخالفه في وجوه أخرى شأنها في ذلك شأن الوصية الإرادية والتنزيل، فتشبه الميراث في كونها لا دخل لإرادة المتوفى في إحداثها ولا إرادة للموصى له في رفضها كما أنها تشبه الوصية الإرادية أو الإختيارية في كونهما معا يطلق عليهما لفظ الوصية وفي كونهما معا لا يمكن أن تتجاوزا ثلث التركة وتقدمان على الميراث وتختلف عنها من حيث مصدرهما فالوصية الإختيارية مصدرها إرادة الموصي وتتوقف في نفاذها على قبول الموصى له في حين أن الوصية الواجبة مصدرها النص القانوني المنشئ لها وغير متوقفة على إرادة الموصى له لنفاذها كما يتبين من خلال مطالعة المواد المنظمة لأحكام الوصية الواجبة نجد المشرع التزم الصمت بخصوص تاريخ سريانها من حيث الزمان وهذا المعطى بدوره أدى إلى تضارب في تفسير تاريخ بدء هذا السريان.
وهذا الاختلاف في طبيعة الوصية الواجبة والأحكام المنظمة لها وسكوت المشرع عن تحديد تاريخ بداية سريانها أدى إلى ظهور مجموعة من الإشكاليات العملية ارتبطت بتفعيل مقتضيات هذه المواد من طرف مؤسسة القضاء ومن قبله الفقه القانوني بلغت حد التضارب، والسبب في ظهور الإشكاليات المرتبطة بسريان الوصية الواجبة من حيث الزمان هو تداخل مجموعة من المعطيات والوقائع المادية المرتبطة باستحقاقها خصوصا وأن المادة 369 نفسها تمت صياغتها على مرحلتين المرحلة الأولى كانت في ظل القانون القديم وكانت تعطي الحق في الاستفادة للأحفاد من جهة الابن فقط والمرحلة الثانية تمت صياغتها في ظل القانون الجديد والتي وسعت الحق في الاستفادة للأسباط من جهة البنت أيضا، الشيء الذي جعل التساؤل يثور بخصوص ما إذا كان الجد أو الجدة قد وافتهم المنية في ظل القانون القديم تم تراخى تقسيم التركة إلى حين دخول القانون الجديد حيز التطبيق ثم طالب الأسباط من جهة الأم بنصيبهم من تركة جدهم المتوفى في ظل القانون القديم هل يقضى لهم بنصيبهم ما دام أن النص الجديد شرع لغاية وحيدة هي حماية حقوقهم رأسا إلى جانب باقي الأحفاد؟ أم لا يقضى لهم بشيء بدعوى أن وفاة الجد وقعت في ظل القانون القديم وأن الأحفاد من الابن بمجرد تحقق الوفاة كواقعة مادية أصبحوا مكتسبين لحقهم في الوصية بل أصبح لهم المركز القانوني الذي يخولهم حق الدفاع عنها وأن صدور قانون لاحق يحرمهم من هذه الحقوق المكتسبة فيه مخالفة لمبدأ عدم رجعية القانون الذي ارتقى إلى مصاف القاعدة الدستورية بمقتضى دستور سنة 2011م؟ ثم هل وفاة الجد أو الجدة فقط هي الواقعة التي يبدأ منها احتساب سريان الوصية الواجبة أم أن وقائع أخرى من قبيل تاريخ قسمة التركة أو تاريخ إنجاز الإراثة أو تاريخ وفاة الأب أو الأم أو هما معا يمكن أن يكون لها تأثير بخصوص هذا الاستحقاق من عدمه هذا من جهة، ومن جهة أخرى ظهرت الإشكاليات المرتبطة بالوصية الواجبة في حالة اجتماعها وتزاحمها بالوصية الإدارية فأي منهما أولى بالتقديم هل الوصية الاختيارية النابعة من صميم إرادة الموصي المكرس قانونا بمبدأ سلطان الإرادة أم أن الأولوية في الاعتبار في الإستحقاق تكون للوصية الواجبة لأن مصدرها النص القانوني الملزم وهو اللأولى في درجة الإعتبار؟ وما يقال على الوصية الاختيارية يقال على التنزيل ولا شك أن البحث في هذه الإشكاليات تقتضي بل تلزم الباحث بمقاربتها في ظل أصولها الشرعية بموازاة مع النظرة القانونية التشريعية وارتباطا في كلا الحالتين بالأهداف التي توخى المشرع الوصول إليها.
كل ذلك سوف يتم مناقشته من خلال التصميم التالي:
المبحث الأول: الوصية الواجبة وأحكامها.
المبحث الثاني: إشكالية سريان الوصية الواجبة من حيث الزمان.
>>>رابط تحميل البحث كاملا<<<
مواضيع أخرى قد تهمك:
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا برأيك