القائمة الرئيسية

الصفحات

ورقة علمية حول تطور الجزاء الجنائي

بحث علمي يعالج موضوع تطور الجزاء الجنائي . من خلال مختلف المدارس الفقهية. اضافة الى تأثر التشريعات الدولية والوطنية بهذا التطور.

ورقة علمية حول تطور الجزاء الجنائي

ورقة علمية حول تطور الجزاء الجنائي
ورقة علمية حول تطور الجزاء الجنائي

مقدمة

إن مقومات العدالة ولاسيما في الدولة المدنية تقتضي التوفر على منظومة قانونية،. تكون الركيزة الأساسية والدعامة الحقيقة لتنظيم سلوك الفرد داخل المجتمع،. فإذا كانت المجتمعات القديمة اتسمت بالنزعة الفردية والأنانية وحب الذات،. الشيء الذي نتج عنه قساوة رد فعل المجتمع اتجاه المجرم والجريمة،. فبعد أن كان الجزاء لا يفرق في معاقبة مرتكب الفعل الجرمي بين الإنسان أو الحيوان أو الأشياء،. أصبح هذا الجزاء ينصب بصورة شخصية وحصرية على المجرم مرتكب الفعل فقط..

وهذا التحول ساهمت فيه مدارس ونظريات ذات صلة بالموضوع من خلال التطرق له ومعالجته وتوجيه سهام النقد فيما بينها،. الأمر الذي نتج عنه طفرة نوعية أدت إلى الانتقال بهذا الجزاء من القساوة إلى الانسنة،. الشيء الذي أفرز الانتقال من الوظيفة الردعية للجزاء إلى الوظيفة الإصلاحية.

وقد كانت المنظومة الإسلامية سباقة للتطرق لهذا الموضوع من خلال ربط المسؤولية بالتكليف،. ليقابلها محاسبة المسؤول عما قام به.

فهذا الجزاء ما هو في حقيقة الأمر،. إلا أثر ينتج من الناحية القانونية على سلوك يعد جريمة. نظرا لما تخلفه هذه الأخيرة من زعزعة للنظم السائدة داخل المجتمع.. ومساس بحقوق الأفراد من خلال ما يرتبه الفعل الجرمي من ضرر يمس المصالح المشتركة والقيم الثابتة.

ومن هذا المنطلق فالجزاء الجنائي يعد من المواضيع التي تكتسي أهمية بالغة. تتجلى في كونه حلقة وصل لسلسة متكاملة يكون الهدف منها توقيع الجزاء على الجاني،. بطبيعة الحال بعد ثبوت مسؤوليته الجنائية،. فهذا المفهوم قد عرف في مراحله الأولى مخاضا عسيرا بين مختلف الأقطاب و التيارات الفكرية. التي تتجاذبه ليصل كمفهوم على الشكل الذي استقر عليه حاليا حتى أصبح قائما بذاته،. و تم تكريسه في ظل التشريعات الوضعية الحديثة،. وبالتالي فالجزاء الجنائي وباستقراء المنظومة التشريعية المقارنة،. فهو يتخذ شقين،. العقوبات والتدابير الوقائية على الرغم من اختلاف نمط كل منهما. إلا ان غرضهما يبقى واحدا وهو التصدي للظاهرة الإجرامية وإيقاع الجزاء،. والملاحظ أن غالبية التشريعات الجنائية تأثرت بمبدأ الازدواجية في الجزاء كما هو الحال للمشرع المغربي الذي تبنى هذا المنهج،. و كرسه من خلال تشريعه الجنائي، حيث قسمه بدوره إلى شقين،. شق يتعلق بالعقوبات والشق الآخر يتعلق بالتدابير الوقائية.

وأمام التطور الذي عرفه المنتظم الدولي في مجال حقوق الإنسان و تطور آليات الزجر. وأمام مواكبة الأفعال الجرمية من لدن المشرع المغربي وعيا منه بجسامتها،. كان لا بد عليه مسايرة هذا التوجه،. الأمر الذي يمكن استشرافه من خلال التعديل المرتقب على النصوص القانونية الجنائية بصفة عامة والشق المتعلق بالجزاء الجنائي بصفة خاصة،. الأمر الذي أدى إلى الانفتاح على آليات جديدة للجزاء وهو ما يمكن لمسه من مقتضيات مسودة القانون الجنائي. فموضوع الجزاء الجنائي ما هو إلا محور يطرح في طياته وصلبه إشكالية أساسية مفادها:

إلى أي حد استطاع الجزاء. عبر المراحل التي مر منها أن يحد من الظاهرة الإجرامية ويضمن في نفش الوقت إنسانية المجرم؟.

وتتفرع عن هذه الإشكالية تساؤلات فرعية تتمثل فيما يلي:

ماهية الجزاء الجنائي؟

كيف عالج الفكر التقليدي الجزاء الجنائي؟

ما موقف الشريعة الإسلامية من الجزاء الجنائي؟

كيف ساهم الفكر الحديث في تطور هذا المفهوم؟

من أين استلهم المشرع المغربي جزائه الجنائي؟

ما مدى هذا التطور في ضوء مسودة القانون الجنائي؟

ومعالجة هذا الموضوع تحتم التطرق له اعتمادا على سياق ممنهج ,. يستمد من خلاله فهم التطور الذي حصل لإصابة الإشكالية الرئيسية،. و لهذا يتعين اعتماد التصميم التالي :

التصميم

المبحث الأول: الأحكام العامة للجزاء الجنائي

المطلب الأول: ماهية الجزاء الجنائي

الفقرة الأولى: تعريف الجزاء و بيان خصائصه

الفقرة الثانية: أنواع الجزاء الجنائي

المطلب الثاني: تطور الجزاء الجنائي بين النظريات والفقه الإسلامي

الفقرة الأولى: المدارس المؤطرة للجزاء الجنائي.

الفقرة الثانية: : الجزاء الجنائي في الشريعة الإسلامية.  

المبحث الثاني: الجزاء الجنائي في التشريع المغربي

المطلب الأول: واقع الجزاء في التشريع الجنائي المغربي

الفقرة الأولى: الأساس القانوني للجزاء في التشريع المغربي

الفقرة الثانية: صور الجزاء الجنائي في التشريع المغربي

المطلب الثاني: تجليات الجزاء الجنائي في ضوء مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي

الفقرة الأولى: تجليات تطور الجزاء الجنائي في مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي

الفقرة الثانية: مظاهر قصور الجزاء الجنائي في مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي

المبحث الأول: الأحكام العامة الجزاء الجنائي

الجزاء الجنائي هو رد الفعل الاجتماعي إزاء كل من تقررت مسؤوليته الجنائية،. وهو بذلك يمثل النتيجة القانونية المترتبة على مخالفة نصوص التجريم الواردة في القانون الجنائي. ومن هذا المنطلق سنقف عند ماهية الجزاء الجنائي وأنواعه. في مطلب أول على أن نقف عند تطور الجزاء من خلال النظريات والفقه الإسلامي في مطلب ثاني.

المطلب الأول: ماهية الجزاء وخصائصه وأنواعه

سنقارب ماهية الجزاء الجنائي من خلال الوقوف عند تعريفه وخصائصه في فقرة أولى وإلى أنواعه في فقرة ثانية.

الفقرة الأولى: تعريف الجزاء وخصائصه

تمثل العقوبة أقصى درجات الحماية التشريعية للقيم والمصالح الفردية والجماعية،. وأقوى أدوات السلطة العامة وأكثر ما تملكه الدولة في ترسانتها،. ويتولى القضاء توقيع هذه العقوبة باسم المجتمع على كل شخص ارتكب فعلا محظورا جنائيا،. فهي بذلك تتضمن معنى الإدانة الاجتماعية للمجرم.

وبذلك يعد الجزاء الجنائي ذلك الأثر الذي يترتب قانونا على سلوك يعد جريمة في قانون العقوبات،. فالقاعدة الجنائية تتضمن عنصرين وهما التكليف والجزاء،. فأما التكليف فهو الخطاب الموجه إلى كافة الناس،. ويأمرهم بضرورة الابتعاد عن العمل الإجرامي،. أما الجزاء فيتضمن إنزال العقاب بكل ما يتجرأ على مخالفة هذه الأوامر،. والقاعدة التي لا تتضمن النص على الجزاء هي مجرد قاعدة أخلاقية.

فالجزاء يتميز بعدة خصائص ،. شكل في نفس الوقت مبادئ تراعيها التشريعات الجنائية في وضع سياستها العقابية ونجمل هذه الخصائص فيما يلي:

- شرعية العقوبة أو قانونيتها وهو مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص فهي بذلك تقررت لتأكيد سيادة القانون؛

- شخصية العقوبة: مؤداها أن العقوبة لا توقع إلا على شخص المحكوم عليه بها بمقتضى حكم قضائي دون سواه، فهي تناله في شخصه أو ماله أو اعتباره أو حقوقه المدنية والوطنية ولا تمتد إلى غيره أيا كانت صلة القرابة التي تجمعه به[1]؛

- قضائية العقوبة: أي أن السلطة القضائية هي التي تتولى توقيعها طبق شروط ومسطرة محددين؛

- المساواة في العقوبة: أن تكون هذه العقوبة واحدة بالنسبة للكافة بحيث تطبق على كل من اقترف فعلا يجرمه القانون.

نتيجة لمبدأ "مساواة الجميع أمام القانون". وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار ما يرافق هذا المبدأ من تباين في عقاب المحكوم عليه تبعا لاختلاف. وتباين ظروف وملابسات ارتكاب الجريمة من شخص لآخر.

الفقرة الثانية: أنواع الجزاء الجنائي

الجزاء القانوني هو أن يتخذ صورة أذى مادي منظم يترتب على مخالفة أحكام القاعدة القانونية. يفرض من قبل السلطة العامة في الدولة ممثلة بالسلطة القضائية،. وذلك لزجر المخالف وردع غيره،. وهنا الجزاء يكون على ثلاثة أنواع. بحسب القواعد التي يترتب الجزاء القانوني على مخالفتها،. فقد يكون جزاء جنائيا أو مدنيا أو تأديبيا:

1- الجزاء الجنائي: وهو الذي يترتب على مخالفة قواعد القانون الجنائي،. وهو يفرض في صورة عقوبات تتفاوت من حيث شدتها بحسب اختلاف طبيعة الجريمة وخطورتها،. فهي قد تكون بدنية تنصب على جسم الإنسان كالإعدام،. وقد تكون مالية ترد على المال،. وقد تفرض على حرية الإنسان كالحبس والسجن،. والجزاء الجنائي يفرض لحساب مصلحة المجتمع ثم يفرض لحماية النظام الاجتماعي ورعاية المصلحة العامة،. بحيث لا يتضمن التعويض عن الضرر الذي يلحق بشخص معين،. ولذا نرى بأن القانون يفرض على القاتل عقوبة حتى وإذا لم يكن للقتيل أسرة تتضرر بموته. أو كان القتل قد تم رضاء القتيل أو عفا ذو والقتيل عن القاتل،. وذلك كله بسبب ما يؤديه إلى الأضرار الكبيرة بالمجتمع،. فهو أي القتل يسبب الإخلال بنظام المجتمع،. وإن تلك العقوبة تؤدي إلى وظيفة مزدوجة. فهي تهدف إلى تأديب الجاني والاقتصاص منه أولا وردع غيره من الأشخاص فتمنعهم من ارتكاب الجرائم المماثلة.

2-الجزاء المدني: وهو الذي يترتب على مخالفة قواعد القانون الأخرى. عدا القانون الجنائي،. فهو جزاء يفرضه القانون عند الاعتداء على حق خاص أو إنكاره دون أن يمس هذا الاعتداء المصلحة العامة. أو يخل بالنظام الاجتماعي،. حيث يهدف هذا الجزاء إلى إصلاح الضرر الذي ينتج عن مخالفة القاعدة القانونية أو إزالته،. ولذا يعد الجزاء المدني حق خاص يتقرر لصالح من لحقه الضرر،. ومن ثم له أن يطالب في دعوى مدنية بهذا الجزاء. وتتعدد صور الجزاء المدني تبعا للغرض منه فقد يكون جزاء وقائي. مثل امتناع الموظف عن مصادقة عقد لم تكتمل فيه شروط معينة،. أو قد يكون جزاء في صورة تعويض حيث يلزم القانون من أتلف مالا مملوكا للغير. بتعويض المتضرر عما تسبب له من ضرر... إلخ.

3-الجزاء التأديبي: وهو يفرض عند مخالفة القواعد القانونية التي تحكم الوظيفة العامة أو قواعد الخدمة المدنية،. ومن أمثلة تلك الجزاءات عقوبة التوبيخ أو الإنذار أو الفصل،. ويتميز هذا الجزاء بأنه يفرض من قبل الرئيس الإداري للمخالف وليس من قبل القضاء.

المطلب الثاني: تطور الجزاء الجنائي بين النظريات والفقه الإسلامي

عرفت قواعد القانون الجنائي تطورا هاما عبر العصور المختلفة،. عاكسة في طبيعتها ظروف الزمان والمكان اللذين سايرتهما[2]،. فبقدر ما اتجه الفكر إلى البحث عن سبل محاربة الجريمة بقدر ما دفع ذلك إلى العناية بالمجرم ومحاولة فهم دوافعه إلى الانحراف وهي كثيرة ومتنوعة وتترجم درجة الخطورة الإجرامية[3].

ولتوضيح ذلك سنقسم هذا المطلب إلى فقرتين أساسيين،. نتطرق من خلال الفقرة الأولى إلى عرض أفكار ووجهة نظر بعض المدارس إن لم نقل كلها من الجزاء،. لننتقل بعد ذلك إلى الفقرة الثانية التي من خلالها سنتحدث عن الجزاء الجنائي في المنظومة الإسلامية.

الفقرة الأولى: المدارس المؤطرة للجزاء الجنائي

هذه الفقرة التي سنقسمها إلى نقطتين نخصص الأولى للحديث عن الجزاء في ظل الفكر الجنائي التقليدي. لتنتقل بعد ذلك إلى النقطة الثانية التي توضح ما جاءت به أنظمة الدفاع الاجتماعي. في موضوع الجزاء والتي تشترك في ذلك كل من المدرسة الوضعية وحركة الدفاع الاجتماعي.

v    المدرسة التقليدية:

من روادها العالم الإيطالي بيكاريا الذي كان من أشد المؤيدين لأفكار العلامة الفرنسي مونتسكيو. الذي له فضل السبق في القيام بدراسات علمية في مجال القانون الجنائي لخصها في كتابه الشهير. "شرح الجرائم والعقوبات" سنة 1764([4])،. وقد اتبعه آخرون الذين يعتبرون كذلك من أهم روادها كبنتهام الإنجليزي فيورباخ الألماني،. وقد ظهرت في النصف الثاني من القرن 18([5])،. حيث كان لأفكار هؤلاء الفلاسفة أثرا عميقا في تجديد وتغيير المبادئ. التي كان يقوم عليها النظام الاجتماعي والسياسي فضلا عن النظام الجنائي آنذاك.

وكان من الأسس الحديثة للقانون الجنائي التي قال بها بيكاريا أن أساس حق الدولة في العقاب هو "العقد الاجتماعي". وهكذا فإن العقوبة إنما تمثل إجماع ما تنازل عنه الأفراد من حقوق في الدفاع عن أشخاصهم وأموالهم([6]).

ويمكن أن نلخص المبادئ التي نادت بها هذه المدرسة فيما يلي([7]):

* التسليم بحرية الاختيار لدى الفرد،. فمادام هذا الأخير يتمتع بالإرادة والتمييز فإنه يكون مسؤولا من الناحية الأخلاقية والأدبية عما يرتكبه من جرائم،. وهو تبعا لذلك يتحمل تبعة أخطائه في حالة ما خالف هذا العقد الاجتماعي،. أما إذا كاد الفرد عديم التمييز أو فاقد الإرادة لا يمكن عقابه على قدم المساواة مع الشخص العادي،. فلا عقاب للمجنون أو الصغير غير المميز.

* وجوب المساواة بين أفراد المجتمع جميعا في العقاب،. وتقتضي هذه المساواة أن يكون التشريع هو الطريق الوحيد لتقرير الجرائم والعقوبات،. وذلك حتى يمكن القضاء على تحكم السلطة القضائية. لذلك نادى أنصار المدرسة التقليدية "بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات". كأحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام والجنائي([8]).

* أن تحديد العقوبة يتم بالنظر إلى الجريمة وضررها لا إلى الجاني،. وإن تحققت المنفعة للمجتمع بمنعه في المستقبل ومنع غيره من الإجرام أي ردع خاص وردع عام،. لكن هذا ناهض العقوبات القاسية خاصة الإعدام.

وقد كان لقوة مبدأ شرعية التجريم والعقاب الذي نادى به بكاريا وقعا خاصا. إذا أخذت به الثورة الفرنسية وتضمنه إعلان حقوق الإنسان والمواطن كما نص عليه قانون نابليون عام 1810. وعلى الرغم من أن المدرسة التقليدية أرست العديد من الأفكار والمبادئ. التي كان لها أثرها في تطور فكرة العقوبة أو الجزاء إلا أنها لم تسلم من النقد([9])،. كونها ركزت على جسامة النتائج المادية للجريمة وأغفلت شخص الجاني. وظروفه النفسية والاجتماعية والعوامل التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة،. فهي وقفت عند "الفعل" وأغفلت "الفاعل". كما أنها اعتمدت في تطبيق العقوبة وأهدافها على الردع العام دون اعتبار للردع الخاص.

إضافة إلى أنها طبقت المساواة المطلقة في العقوبة، حيث ربطت كل جريمة بجزاء محدد، وهذا يؤدي إلى إخضاع أشخاص مختلفين في ظروفهم لنفس النوع والمقدار في العقاب، وهذه النتيجة غير عادلة، كل ذلك مهد إلى ظهور المدرسة التقليدية الجديدة أو الحديثة([10]).

v    المدرسة التقليدية الحديثة:

ظهرت المدرسة التقليدية الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر،. حيث ظهر بين مؤيدي "بكاريا" اتجاه يسعى إلى التخفيف من حدة الطابع التجريدي للمدرسة التقليدية. والذي يرى في فكرة العدالة المطلقة الأساس. الذي استند عليه العقوبة،. ومن أقطاب هذه المدرسة نذكر: ارتولان، مولينييه في فرنسا، فرانشسكو كرار في إيطاليا، هوس في بلجيكا وما يرفي ألمانيا.

ويؤسس أنصار هذا الاتجاه العقوبة على فكرتي العدالة والمنفعة الاجتماعية،. فالمجتمع لا يعاقب على ارتكاب أفعال معينة. إلا إذا كان ذلك ضروريا لحماية المصلحة الاجتماعية،. كما أنه لا يعاقب إلا تطبيقا لفكرة العدالة وفي حدودها.

حيث تتفق هذه المدرسة مع سابقتها أي المدرسة الكلاسيكية في إقامة المسؤولية الأخلاقية على حرية الاختيار، إلا أنها تختلف معها في تساوي الأفراد في الحرية([11]) لأن مثل هذا التساوي "وهم" لا يقبله منطق العدالة الذي يقتضي أن تتناسب العقوبة مع درجة الحرية المتوافرة للشخص، وبالتالي إبعاد العقوبة متى تخلفت هذه الحرية وهي تجربة جديدة تذهب إلى تفريد العقوبة على أساس درجة المسؤولية([12]).

كما أن فريقا آخر من الفقه يرى من محاسنها أنها كانت تهدف من وراء تطبيق العقوبة تحقيق العدالة من جهة والردع العام من جهة أخرى وتحقيق العدالة هذا هو ما أدى إلى خلق قواعد قانونية تتناسب فيها كيفية تنفيذ العقوبة مع الظروف الشخصية للمجرم([13]).

لكن رغم ما يبدو على هذه المدرسة من حماس نحو المناداة بإصلاح حال المحكوم عليه إلا أنه عيب عليها أنها بقيت متمسكة بمفهوم العقوبة الزجري([14]).

فالبعد الحقيقي للعقاب عند الكلاسيكيين ليس إصلاح الجاني لأن المشرع والقاضي يبحثان عن العقوبة المستحقة إذ ينظر الأول إلى خطورة الجريمة، ويحدد الثاني قوة العقاب حسب درجة خطورة المسؤولية([15]).

وبصفة عامة فقد لوحظ عدم فاعلية النظام الجنائي القائم في ذلك الوقت في مكافحة الجريمة. مما أورد أزمة ثقة في المذاهب التقليدية. وميلاد فكر جنائي وضعي وسع من دائرة الاهتمام بشخصية الجاني وذهب في اتجاه معاكس للفكر الكلاسيكي.

v    المدرسة الوضعية أو الواقعية:

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اعتمدت هذه المدرسة سياسة جنائية مخالفة تماما للمدرستين السابقين، فقد عاب أنصارها على أقطاب بالمدرسة التقليدية القديمة والجديدة عدم الاهتمام بشخص المجرم وتحري الأسباب والعوامل التي تدفعه إلى سلوك طريق الجريمة والانحراف([16])، لذلك أفضى إلى نشأة المدرسة الوضعية في إيطاليا على يد أقطابها الثلاثة، لمبروزو، فيري وجاروفالو، حيث يرجع إليهم فضل السبق في إرساء قواعد النظرية الوقائية الاجتماعية أو الوضعية الجنائية، والسبب في هذه التسمية أن المدرسة الوضعية تنتهج منهجا يقوم على الملاحظة والتجربة.

وقد كان لكل عالم من العلماء الثلاثة دور في إبراز جانب من الجوانب العملية في تفسير الظاهرة الإجرامية([17])، ففي تلك الدراسات التي نشرها لمبروزو يرجع أسباب الجريمة إلى عوامل بيولوجية، خلقية وراثية، وخلص بدراسته إلى أن المجرم يتميز بأوصاف متميزة تدل على ميله للإجرام، ولذلك قال بنظرية المجرم بالفطرة، أما أنريكو فيري فقد شدد على أهمية الظروف والعوامل الاجتماعية، حيث اتجه في بحثه عن أسباب الجريمة ودوافعها اتجاها اجتماعيا ينظر إلى الجريمة باعتبارها ظاهرة مركبة تساهم في إفرازها -فضلا عن العوامل البيولوجية والنفسية– عوامل اجتماعية متصلة بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها المجرم([18]). أما كارو فالو من خلال دراساته التي أرسي فيها المبادئ التي تعد بمثابة انقلاب على الأفكار التقليدية، حيث أوضح أن هدف العقوبة هو المنع الخاص بالإضافة إلى المنع العام كما جعل في الخطورة الإجرامية للجاني أساس ووسيلة لتحديد الجزاء الجنائي الواجب تطبيقه([19]).

وقد خلص هؤلاء إلى تصنيف المجرمين إلى فئات مختلفة وذلك استنادا إلى نتائج الأبحاث الأنتروبولوجية،. وهذه الطوائف من المجرمين خمس هي المجرم بالفطرة،. المجرم المجنون، المجرم المعتاد، المجرم بالصدفة والمجرم بالعاطفة.

وعموما فقد نادت المدرسة الوضعية بإحلال فكرة المسؤولية الاجتماعية محل المسؤولية الأخلاقية،. وذلك بإخضاع المجرم المسؤولية الجنائية على أساس الخطورة الإجرامية الكامنة في شخصه.

أما بالنسبة للجزاء الجنائي، فالسياسة الجنائية الوضعية ترفض نظام العقوبة-بمفهومها التقليدي- وتأخذ بدلا عنها بنظام التدابير الوقائية([20]).

ولما كان مقدار هذه الخطورة ونوعها يختلفان من شخص لآخر، فإنه ينبغي أن يكون التدبير الاجتماعي المتخذ متناسبا مع هذه الخطورة([21]). ويتخذ هذا التدبير في حق الجاني بغض النظر عن كونه متمتعا بالإرادة والإدراك أم فاقدا لها. مادامت المسؤولية الجنائية موضوعية لا أخلاقية.

وعلى غرار ذلك فإن للمدرسة الوضعية فضل على القانون الجنائي والسياسة الجنائية. بصفة عامة فإليها يعود الفضل في إرساء حجر الأساس المنهج التجريبي. في دراسة الظاهرة الإجرامية مما ادى إلى بروز علمي الإجرام والعقاب. كما أنها لفتت الانتباه إلى دراسة شخص المجرم والاهتمام بفكرة الخطورة الإجرامية والأخذ بنظام التدابير الوقائية. مما أدى إلى تعرضها للنقد في تركيزها على شخصية المجرم. جعلها تتجاهل الآثار المادية أو الاجتماعية الناجمة عن الجريمة. وبالتالي إغفال فكرة العدالة التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتطبيق العقوبة.

v    مدرسة الدفاع الاجتماعي:

شكلت هذه المدرسة الثورة الثالثة في مسيرة تطور الفكر الجنائي الحديث. وقد نشأت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية كرد فعل على ما تعرضت له حقوق الإنسان وكرامته خلال هذه الحرب في أساليب الاستغلال والتعسف، مما جعل عديدا من الفقهاء يستشعرون ضرورة رد الاعتبار للقيم الإنسانية من خلال نهج سياسة جنائية اجتماعية وإنسانية تهدف إلى تطهير المجتمع من الجرائم وتعمل على تقويم المنحرفين وتأهيلهم اجتماعيا([22]).

هذا ويعد الإيطالي "جراماتيكا" الأستاذ بجامعة جنوا بإيطاليا هو مؤسس هذه الحركة الفكرية الجديدة التي أطلق عليها "حركة الدفاع الاجتماعي" سنة 1943. والذي بدا فيه بوضوح إسرافه في إبراز الطابع الإنساني بحيث جعله محور الدفاع عن المجتمع([23]).

وعلى الرغم من تعدد التيارات التي تنتمي إلى الدفاع الاجتماعي فإنه يجب إلقاء الضوء على تيارين أحدهما لمؤسسها "جراماتيكا" والآخر للفرنسي مارك أنسل".

أولا: الدفاع الاجتماعي لجراماتيكا

من المبادئ التي نادى بها جراماتيكا هي أن ما يعرف "بالجريمة" أو السلوك الإجرامي"، ليس في نظر هذه المدرسة إلا مظهرا للحالة النفسية المضادة للمجتمع والكامنة لدى مرتكبيها، والأسباب أو الدوافع التي تحفز الفرد على مضادة المجتمع نابعة من المجتمع الذاتي أي من الاضطراب والخلل في نظمه وقيمه. كما أن جراماتيكا لم يعترف بمصطلحات الجريمة، والمجرم والمسؤولية الجنائية والعقوبة... حيث استعاض عن مفهوم الجريمة بمفهوم الانحراف الاجتماعي، وعن المجرم بالشخص صاحب السلوك اللاإجتماعي، كما استبدل فكرة المسؤولية الجنائية بفكرة وإعادة تأهيل الفرد اجتماعيا واستبدل فكرة العقوبة بتدابير الدفاع الاجتماعي([24]) وبشكل عام فإن هذه النظرة التي تبناها جراماتيكا تبدو متطرفة إلى حد كبير، لكونها ترفض كلية فكرة الجريمة وفكرة المسؤولية الجنائية عنها وتستبدلها بالدراسة العلمية لشخصية كل فرد مناهض للمجتمع من حيث يمكن تحديد التدبير الملائم له، والذي يساهم في إعادة تكيفه مع المجتمع.

وقد تعرضت وجهة النظر هذه إلى انتقادات عنيفة من جانب العديد من علماء الجريمة لكونها نادت بإلغاء القانون الجنائي بأدواته ومؤسساته الراسخة، مع ما ينطوي عليه ذلك من إهدار لمبدأ شرعية التجريم والعقاب لذلك لم يكتب لهذه الأفكار التطبيق ولا الذيوع.

ثانيا: الدفاع الاجتماعي الجديد عند مارك أنسل

يعتبر مارك أنسل زعيم الجناح المعتدل لحركة الدفاع الاجتماعي، وقد استفاد هذا الأخير من الانتقادات التي وجهت لجراماتيكا فأرجع الظاهرة الإجرامية إلى أسسها ومقوماتها القانونية، فهو يقر بوجود القانون الجنائي بنظمه ومؤسساته المختلفة، مع تخليصه من كل المبادئ والأفكار المجردة والافتراضات والقرائن، مع الحرص على توجيه السياسة الجنائية توجيها إنسانيا.

وهكذا فإن قانون العقوبات كما يراه أنسل يقوم على عدة أسس:

* إقرار مبدأ حرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية.

* الإبقاء على مبدأ شرعية التجريم والعقاب.

*إن الهدف المتوخى من وراء إخضاع المجرم لنظام العدالة الجنائية ليس هو اتباع الرغبة في الانتقام أو التكفير عن الخطأ، وإنما هو الإصلاح أو التقويم وصولا إلى إعادة إدماجه اجتماعيا.

* أن القاضي الجنائي لابد أن يتاح له قدر كبير في السلطة التقديرية التي تمكنه من تحديد التدبير الملائم للمجرم، وكذلك تعديل أسلوب تنفيذه إذا اقتضى الأمر ذلك.

* الدعوة إلى استعانة القانون الجنائي بعلوم أخرى تجريبية – حديثة تساعده في التعرف على أسباب ودوافع ارتكاب الجرائم وأساليب مكافحتها في مقدمتها علم الإجرام، علم الاجتماع الجنائي.

فمن خلال تقدير حركة الدفاع الاجتماعي الجديد يسجل لهذه الحركة أنه يعود إليها الفضل في نهج سياسة جنائية وقائية إنسانية تدافع عن كرامة الإنسان وتحفظ آدميته، وترمي في الوقت نفسه إلى حماية المجتمع من الإجرام والانحراف ولذلك فقد تردد صداها على المستوى الفقهي والتشريعي. إلا أنها لم تسلم مع ذلك من مؤاخذات، حيث عيب هذه الحركة بافتقارها إلى أساس منطقي يجمع بين مجمل الأفكار والآراء التي نادت بها، وكذا اهتمامها فقط بالردع الخاص عوض الردع العام ومبدأ العدالة، مما يفقد الجزاء الجنائي جانبا هاما من وظيفته، كما أثارت فكرة التدابير الوقائية السابقة على ارتكاب الجريمة شكوكا لدى بعض الفقه الجنائي، حيث اعتبروا بأن من شأن تطبيق هذه التدابير بناء على خطورة الجاني أن يمس بالحقوق الفردية وبمبدأ الشريعة الجنائية([25]).

نتيجة لكل ما جاءت به المدارس الأربع المؤطرة للجزاء الجنائي يعتبر المشرع المغربي من بين التشريعات التي تبنت وتشبعت بالأفكار التي نادت بها هذه المدارس وضمنها في بعض نصوصه وفصول مجموعة القانون الجنائي نذكر في ذلك، الفصل الثالث من مجموعة القانون الجنائي وبعض نصوص كل من دستور 1972، 1992، 1996 والتي نادت بمبدأ شرعية التجريم والعقاب في صورته العامة والتي نصت عليها المدرسة التقليدية كما يلاحظ أن المشرع المغربي تأثر كثيرا بما جاءت به المدرسة التقليدية الحديثة ويتجسد ذلك من خلال الفصل 135 من م.ق.ج التي تنص على مسؤولية الشخص التي تكون ناقصة إذا كان وقت ارتكابه الجريمة مصابا بضعف في قواه العقلية من شأنه أن ينقص إدراكه وبالتالي تنقيص مسؤوليته جزئيا إضافة إلى بعض الفصول الأخرى نذكر منها 79 و149، 150، و151 والتي من خلال مضامينها يتبين أن المشرع تأثر بما جاءت به هذه المدرسة التقليدية الحديثة.

لننتقل بعد ذلك إلى المدرسة الوضعية التي نلاحظ أن المشرع المغربي قد تأثر بمبادئها من خلال ما يتضح من الفصول 154 إلى 160 من م.ق.ج وفصول أخرى من 75 إلى 82 من م.ق.ج والتي تطرق فيها المشرع إلى التفريق في المعاملة بين المجرم المبتدئ والمجرم العائد، المجرم المختل والمجرم الحدث ونص على ظروف التشديد في حالة العود.

ويبقى موقف المشرع المغربي من حركة الدفاع الاجتماعي له صدى ضئيل إذا ما استثنينا الحالة الوحيدة التي تنص على فحص شخصية المتهم في مرحلة التحقيق الإعدادي.

بعد أن القينا نظرة على موقف المدارس المؤطرة للجزاء الجنائي يجدر بنا التعرض إلى موقف الشريعة الإسلامية و ذلك بإلقاء نظرة على أهم المبادئ التي تحكم التشريع الجنائي الإسلامي حيث يعرف الفقه العقوبة بأنها الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على مخالفة و عصيان أوامر الشارع و يعرفها أيضا بأنها تأديب استصلاح و زجر يختلف بحسب اختلاف الذنب .

فالعقوبة تبعا لهذين التعريفين لها وظيفتين:

-حماية الجماعة من جهة .

- إصلاح الفرد من جهة اخرى.

وبهذا فالنظام الإسلامي يتبين أن له خصوصياته التي تميزه عن الأنظمة الجنائية الأخرى فهو يتميز بنزعته الدينية حيث أن هناك أحكام جنائية نزلت وحيا بالقرآن و السنة والتي تهم جرائم الحدود و القصاص و الدية وهي جرائم عقوبتها مقدرة حقا لله تعالى و التي تنعدم فيها السلطة التقديرية و تلزم في سبع جرائم على سبيل الحصر.

1-جريمة الزنا : ودون تحديد لماهية هذه الجريمة و أركانها فعقوبتها نوعان :

أ-عقوبة البكر: أي الذي لم يطأ زوجا بنكاح صحيح و مقدارها مئة جلدة .

ب-وتخص كل من أصاب زوجا بنكاح صحيح و تكون بالرجم بالأحجار حتى الموت.

وقد جاءت عقوبة الزنا لحفظ النسل.

2- جريمة القذف : وهي بالتعريف الرمي بالزنا فهذه الجريمة الملاحظ أنها محددة في عقوبة اصلية و هي الجلد و تبعية وهي عدم قبول شهادة القاذف.

3- شرب الخمر : وقد جاءت ثابتة بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد روي عنه أنه قال من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم من شرب فاجلدوه ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه و قد جاءت عقوبة الخمر لحفظ العقل.

4-السرقة: شرعت بقوله تعالى السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله و الله عزيز حكيم و قد جاءت عقوبة السرقة لحفظ المال.

5-الحرابة: قد شرعت بقوله تعالى أما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم من خلاف و قد ظهر خلاف بين الفقهاء حول إعمال حرف العطف الوارد في الآية أهو  لتخيير فيكون بذلك القاضي مخيرا في تطبيق أي من العقوبات أم أنها تنويع للعقوبات حسب تنويع الجرائم.

6-الردة: فجريمة الردة في الدين الإسلامي ترتب آثارا خطيرة في المجتمع و فيها شيء من المماثلة لجريمة تغيير النظام الاجتماعي لذلك كان المشرع الإسلامي حريصا على تشديد العقاب على مرتكبيها فمن يكفر بعد إسلامه فجزائه القتل وقد جاء حد الردة للحفاظ على الدين.

7-البغي: هذه الجريمة ثابتة بمفهومها في القانون الوضعي لأنها تحول دون انشقاق بين المجموعات المكونة للأمة.

الصنف الثاني: ويتعلق الأمر بالقصاص و الدية و هي عقوبات لجرائم القتل العمد و القتل شبه العمد و القتل الخطأ التي ترتكب ضد النفس.

الجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص هي القتل العمد إتلاف الأطراف عمدا و الجرح العمد أما تلك التي يعاقب عليها بالدية فهي جرائم القصاص إذا عفا من القصاص أو امتنع القصاص لسبب شرعي .

القصاص معنا رد الاعتبار لمثل ما اعتدي به لقوله تعالى و كتبنا عليهم النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و السن بالسن و الجروح قصاص.

ويتضح من خلال التعريف بجرائم القصاص التي لا نقاش في مشروعيتها ولا في تقدير عقوبتها أن الجزاء المقدر لهذا النوع من الجرائم ولو أنه عقوبة جنائية من حيث التقدير فإنه يرتبط كذلك بإرادة أولياء المقتول فالأمر لا يعدو أن يكون إحدى الاحتمالات الثلاث :

أ‌-       إما أن يطلب تطبيق القصاص ممن يملك الخيار وهو ولي مقتول إذا كان  قد توفي أو المتضرر إذا كان قد أصيب بجروح.

ب-   قد يطلب الولي أو المضرور الدية فيعدل بذلك عن تطبيق القصاص.

ج-  قد لا يطلب الولي أو المضرور لا تطبيق القصاص ولا أداء الدية وإنما يمنحان العفو للجاني تقربا من الله تعالى ورجاءا لرحمته. 

الفقرة الثانية: العقوبات غير المحددة

عطفا عما سبق فإلى جانب أنواع العقوبات في الشريعة الإسلامية نجد التعازير وهي  عقوبة تختلف عن الأنواع السالفة الذكر فهي غير محددة بمعنى لم تقدر عقوباتها من طرف الله سبحانه و تعالى أو من الرسول عليه الصلاة و السلام.

ويترك أمر تقديريها للقاضي وتطبق على الجرائم التي تمس القيم الاجتماعية وأنظمة المجتمع المتغيرة والتي لم تجمع لها شروط وجوب القصاص أو الحدود الشرعية.

هذا النوع من العقوبات هو الذي يسمح للقاضي الجنائي في الفقه الإسلامي بتفريد العقوبة بما يتلائم وحالة المجرم.

فالجرائم التي يجب فيها التعزير كثيرة ومتنوعة وتتغير بتغير الزمان والمكان ويمكن للقاضي أن يقرر من العقوبات التعزيرية ما يمكنه من حفظ المجتمع المسلم في أهم المصالح الحيوية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية حتى لو بلغ في التعزيز عقوبة الحد او القتل.

ومن الأمثلة هذه الجرائم هناك (خيانة الأمانة-النصب -إحراق الممتلكات وإتلاف المزروعات-أكل الربا – السب – قتل الأب لولده إلى غير ذلك.

وعموما فإن الحالات التي يمكن فيها تطبيق العقوبة المقررة التعزيرية تستعصي على الحصر والعقوبة فيها قد تصل لحد إعدام الشخص كما تكتفي بإيلامه بالضرب او بإيلام النفس فقط كحبس الشخص أو تسويد وجهه لفضحه بين الناس.

قد ذهب بعض الفقه الغربي إلى وصف نظام التعازير بسياسة الدفاع الاجتماعي والحقيقة أن شريعتنا الغراء سياسة العدالة الاجتماعية التي لا تعرف للظلم منفذا سياسة لا تعرف التفرقة بين هذا وذاك سياسة تفتح المجال للناس كافة على اختلاف مشاربهم و تباين عاداتهم و تقاليدهم و تاريخهم فهي شريعة كل دولة كما وصفها الفقه.

ويرتبط بما سبق أيضا أن القاضي لا تكون له الحرية في اختيار العقوبة أو تفريدها في جرائم الحدود أو القصاص أو الديات إذ هي كلها عقوبات إما بدنية أو مالية لها حد واحد أما بالنسبة للجرائم التي تدخل في باب التعازير فلقاضي حرية مقيدة بحيث له أن يختار في نطاق سلطته قدر العقوبة أو نوعها في حدود ما يتناسب مع ملابسات الجريمة و ظروف المجرم إلا أن هؤلاء القضاة ليس لهم أبدا تجريم فعل و لا عقابه ما لم يجرمه و يقرر له العقاب من طرف ولي الأمر في المجتمع الإسلامي .

وبالتالي يمكن لنا القول أن سلطة القاضي التقديرية في التشريع الجنائي الإسلامي تجعل القاضي ملزم بعد تبوث الجريمة طبعا أن ينزل " الحد المقرر بالجاني إذا كانت الجريمة المقترفة من جرائم الحدود أما إذا كانت من التعازير فإنه يقدر العقوبة المناسبة في ضوء جسامة الجريمة و ظروف المجتمع أو المجرم ضمن الحدود التي يرسمها التعزير كمصدر و صفي للتجريم و العقاب و في هذا الصدد تقول الأستاذة و الدكتورة لطيفة المهداتي "أن سلطة القاضي الجنائي الإسلامي مقيدة في مجال الحدود وواسعة في مجال التعازير".

ومجمل القول أن الشريعة الإسلامية تدور حول ثلاث دوائر "الحدود- القصاص - التعازير" فالمشرع بالنسبة للحدود والقصاص  قد حدد العقوبات "كما" و "نوعا" و "صفة" ولم يغفل في هذا الطرح شخصية الجاني بخصوص التعازير و هذا ما يسمى في الفقه الوضعي بتفريد الجزاء.

وبعد الوقوف على الجزاء الجنائي من خلال النظريات والفقه الإسلامي سنحاول أن نقف عند واقع الجزاء في التشريع الجنائي المغربي الحالي والتطور الذي عرفه من خلال مسودة مراجعة هذا التشريع، هذا ما سنتناوله في المبحث الثاني. 

المبحث الثاني: واقع الجزاء الجنائي في التشريع المغربي

فإذا كانت المدارس والنظريات المؤطرة للجزاء الجنائي قد تعرضت لهذا الجزاء تحليلا ونقدا، فالمشرع المغربي استقى منها ما تتطلبه سياسته الجنائية في هذا المجال ووعيا منه بخطورة الجرائم نظرا لما تحدثه من اضطراب اجتماعي، فقد كان سباقا للتصدي لمعالجة هذا الاضطراب من خلال توقيع الجزاء المناسب على مرتكب الفعل الجرمي، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار، ما جاء ويتماشى مع مضامين الاتفاقيات والمواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان ومقتضيات الدستور الجديد لسنة 2011، مما دفع المشرع المغربي إلى القيام بمراجعة وتعديل ترسانته الجنائية من خلال مسودة تعديل مجموعة القانون الجنائي، وقانون المسطرة الجنائية:

فما هي مظاهر الجزاء الجنائي بالتشريع المغربي هذا ما سنتطرق إليه في المطلب الأول على أن نقوم في المطلب الثاني بمعالجة تجليات الجزاء الجنائي في ضوء مسودة التعديل.

المطلب الأول: واقع الجزاء في التشريع الجنائي المغربي

عرفت منظومة الجزاء في التشريع الجنائي المغربي عدة مراحل تمثلت في مرحلة ما قبل الحماية حيث كانت تطبعه أغلب الجزاءات التي جاء بها التشريع الإسلامي، ثم مرحلة الحماية حيث تأثر المشرع بالمدارس الوضعية، وهذا ما سار عليه في مرحلة ما بعد الحماية في ظهير رقم 413-35-1 المتعلق بمجموعة القانون الجنائي الحالي، ومن هذا المنطلق سنتطرق للأساس القانوني للجزاء في التشريع الجنائي المغربي في فقرة أولى على أن نتطرق لصوره في فقرة ثانية

الفقرة الأولى: الأساس القانوني للجزاء في التشريع الجنائي المغربي

يقوم الجزاء الجنائي في التشريع المغربي على عدة مبادئ أهمها:

أولا: مبدأ الشرعية: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص

كرس المشرع المغربي مبدأ الشرعية الجنائية في الجزاء وذلك في المادتين 1 و 3 حيث جاء نص في المادة 1 (يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم ما بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية.

المادة3 : جاء فيها (لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون فلا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون).

تجدر الإشارة إلى أن المشرع المغربي قام في دستور يوليوز 2011 بالرقى بهذه القاعدة بمصاف القاعدة الدستورية وذلك في الفصل 23 من الدستور في الباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات الأساسية.

ثانيا: مبدأ المساواة بالجزاء

يعتبر مبدأ المساواة بالجزاء ضمانة أساسية من ضمانات الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، لقد نص عليه المشرع المغربي في الفصل 19 من الدستور الجديد والذي يعني أن الجميع سواسية أمام القانون وبالتالي أمام الجزاء، لكن من مراكزهم القانونية وليس من حيث ظروفهم الشخصية.

ثالثا: مبدأ تقريد الجزاء

 أخد المشرع المغربي في مبدأ تفريد الجزاء في الفصل  141من مجموعة القانون الجنائي (للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة و تفريدها في مظاهر الحد الأدنى والحد الأقصى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة مراعيا خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية وشخصية المجرم من ناحية أخرى) أي أن المشرع أعطى للقاضي صلاحية تفريد الجزاء تبعا لشخصية المجرم ولظروف كل جريمة وملابستها.[26]

الفقرة الثانية: صور الجزاء في القانون الجنائي المغربي

لقد صنف لنا المشرع الجزاءات الجنائية إلى عقوبات وتدابير وقائية، وعليه سنتناول العقوبات ثم التدابير الوقائية.

أولا: العقوبات:

العقوبات هي إما عقوبات أصلية أو عقوبات إضافية.

العقوبات الأصلية: هي العقوبات التي يجوز الحكم بها وحدها دون أن تضاف إلى عقوبة أخرى كما أنها لا تطبق إلا إذا نطق بها القاضي وصدر نوعها وقرارها وذكرها المشرع في الفصول من 13-35.

وتصنف العقوبات الأصلية إلى:

عقوبات بدنية (الإعدام)

عقوبات سالبة للحرية (السجن-الحبس)

عقوبات مقيدة للحرية (الإقامة الجبرية)

عقوبات مالية (الغرامة)

وصور العقوبات الجنائية الأصلية في الفصل 16 وهي 5 :

1-الإعدام،

 2- السجن المؤبد،

 3- السجن المؤقت من خمس سنوات إلى 30سنة،

 4- الإقامة الجبرية،

 5- التجريد من الحقوق الوطنية.

الإعدام:

يحكم بالإعدام بالتشريع المغربي في جرائم محددة كتلك المتعلقة بالجرائم ضد أمن الدولة الداخلي أو الخارجي أو القسم أو الحرف الذي يقع ضد محل مسكون أو في جرائم قتل الأصول إلخ...

عقوبة السجن:

السجن عقوبة أصلية تقرر للجنايات فقط وهي مؤبدة أو مؤقتة تتراوح مدته ما بين 5 إلى 30 سنة.

عقوبة الحبس:

الحبس عقوبة أصلية تقرر للجنح فقط وهو عقوبة مؤقتة تتراوح مدته ما بين الشهر و 5 سنوات باستثناء حالة العود أو غيرها التي يحددها القانون.

عقوبة الاعتقال:

الاعتقال عقوبة أصلية تقرر للمخالفات فقط ويجب ألا تقل مدته عن يوم واحد وألا يتجاوز في مدته شهر واحد.

العقوبات المالية:

تتمثل في الغرامات وهي إلزام المحكوم عليه بأن يؤدي إلى الخزينة العامة مبلغا حصينا من النقود بالعملة المتداولة قانونا في المملكة، والغرامة من العقوبات الأصلية المقررة للجنح والمخالفات حيث في المخالفات يجب ألا تقل عن 1200 درهم وفي المخالفات يجب ألا تزيد عن 1200 درهم وتقل عن 30 درهم.

الإقامة الإجبارية:

من العقوبات الأصلية المقررة للجنايات ويقصد بها كما جاء في الفصل 25 من القانون الجنائي أن تحدد المحكمة مكانا للإقامة أو دائرة محددة لا يجوز للحكم عليه الابتعاد عنها بدون رخصة طوال المدة التي يحددها الحكم.

التجريد من الحقوق الوطنية:

تقضي بها المحكمة في الجنايات السياسية فقط ولمدة تتراوح بين سنتين و10 سنوات ما لم تنص مقتضيات خاصة على خلاف ذلك.

العقوبات الإضافية:

 هي العقوبات التي لا يجوز الحكم بها وحدها وإنما يحكم بها إلى جانب العقوبة الأصلية وهي إما عقوبة تتبع الحكم بالعقوبة الأصلية دون أن تكون بمضمون الحكم، وإما عقوبة تكميلية.

والعقوبات الإضافية ذكر المشرع صورها في الفصول (36-37-38): وهي:

الحجز القانوني

التجريد من الحقوق الوطنية

الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية

الحرمان النهائي أو المؤقت من المعاشات التي تصرفها الدولة والمؤسسات العمومية غير أن هذا الحرمان لا يكمن أن يطبعه على الأشخاص المكلفين بالنفقة على طفل أو أكثر.

المصادرة الجزئية للأشياء المملوكة للمحكوم عليه بصرف النظر عن المصادرة المقررة كتدبير وقائي في الفصل 89.

حل الشخص المعنوي

نشر الحكم الصادر بالإدانة.

الحجز القانوني: هو حرمان المحكوم عليه من مباشرة حقوقه المالية طوال مدة تنفيذ العقوبة الأصلية.

التجريد من الحقوق الوطنية: له نفس النتائج التجريد من الحقوق الوطنية كعقوبة أصلية كما ذكرناها أعلاه.

الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية: تشمل هذه العقوبة التجريد الجزئي والمؤقت من ممارسة من الحقوق الوطنية الواردة في الفصل 26 من القانون الجنائي والحكم بها اختياري في الحالات التي يحددها القانون ولا يحكم بها إلا تبعا لعقوبة جنحية.

الحرمان النهائي أو المؤقت من الحصص في المعاشات التي تصرفها الدولة: هذه العقوبة إما نهائية أو مؤقتة ولا تتقرر إلا مع العقوبة الجنائية ولا يجوز الحكم بها في الجنايات التي تصدر بها المحكمة عقوبة جنحية فقط لتوفر ظروف التخفيف.

المصادرة: هي عقوبة مالية كالغرامة تعني في جوهرها إضافة جزء من أملاك المحكوم عليه أو بعض أملاك له معينة إلى خزينة الدولة دون مقابل وتنقسم إلى قسمين: مصادرة جزئية  -   مصادرة عينية

 حل الشخص المعنوي: يعني منع الشخص من مواصلة ممارسة نشاطه الاجتماعي والاقتصادي حتى لو تحت اسم آخر وبإشراف مسيرين آخرين.

نشر الحكم: هذه العقوبة تنال الشخص الطبيعي والشخص المعنوي ولها غايات متعددة (منال)

(تهدئة الضحية وإعادة الاعتبار إليه – أو قصد إبلاغ الحقيقة للجمهور).

ثانيا: التدابير الوقائية

يمكن تعريف التدابير الوقائية بأنها نظام قانوني يرمي أساسا إلى حماية المجتمع من الخطر الكامن في بعض الأفراد الذين أصبحوا بحكم استعدادهم الإجرامي مضيئين أكثر من غيرهم لارتكاب ما من شأنه أن يؤدي إلى إحداث الاضطراب الاجتماعي. (كالمجانين والعائدين=الأحداث ومدمني المخدرات) يكون ذلك إما بالتحفظ عليهم أو بعلاجهم أو إصلاحهم وتهذيبهم بقصد إعانتهم على استرداد مكانتهم في المجتمع.

وهي مستوحاة من فلسفة المدرسة الوضعية التي تؤسس المسؤولية على المصلحة الاجتماعية من جهة و تنادى بفعل الجزاء متناسبا مع خطورة الجرم من جهة ثانية.

المشرع عالج التدابير الوقائية غي الفصول 61 إلى 104.

وهي نوعان:

التدابير الشخصية               

التدابير العينية

التدابير الشخصية :  الفصل 61

هذه التدابير إما تكون سالبة للحرية أو قد تكون سالبة للحقوق.

التدابير الوقائية السالبة للحرية:

- الإقصاء

- الإجبار على الإقامة بمكان حصين   

- المنع من الإقامة        

- الإيداع القضائي داخل المؤسسة لعلاج الأمراض العقلية                                                                                                - الوضع القضائي داخل مؤسسة العلاج     

- الوضع القضائي في مؤسسة فلاحية       

التدابير الوقائية السالبة للحقوق

- عدم الأهلية لمزاولة جميع الوظائف أو الخدمات العمومية

- المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو قن سواء كان دلك خاضعا لترخيص إرادي أم لا

- سقوط الحق في الولاية الشرعية على الأبناء

التدابير الوقائية العينية : الفصل 62

التدابير الوقائية العينية كما هو منصوص عليها في الفصل 62 من القانون الجنائي

مصادرة الأشياء التي لها علاقة بالجريمة أو الأشياء الصادرة أو المحظورة استعمالها

إغلاق المحل أو المؤسسة التي استغلت في ارتكاب الجريمة.  

وإذا كان هذا هو واقع الجزاء الجنائي في التشريع الجنائي المغربي فماذا عن الجزاء الجنائي في المشروع المرتقب.

المطلب الثاني: تجليات الجزاء الجنائي في ضوء مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي

لا يخفى على أحد ما تعرفه المحاكم من تراكم في القضايا الزجرية المعروضة عليها، وكذا من كون العقوبات مهما كانت قاسية فإنها لا تحد من الجريمة، ومن أن العقوبات السالبة للحرية لا تؤدي حتما إلى إصلاح المجرم وإخراجه من عالم الإجرام وذلك إما بسبب الاكتظاظ الذي تعرفه المؤسسات السجنية مع ما يعنيه ذلك من عدم الاهتمام بالسجناء بغاية تقويم سلوكهم أو بسبب عدم توزيع السجناء على حسب درجة  إجرامهم، ومن تم كان لا بد من التفكير في إيجاد عقوبات بديلة قادرة على تجاوز هذه الأمور وغيرها، وهو المسعى الذي تنادي به عدد من جمعيات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الوطنية والدولية.

والمشرع المغربي وعيا منه بذلك وكذلك بما تفرضه عليه التزاماته الدولية فقد انخرط منذ مدة في مواكبة هذه الدينامية وذلك عبر إدخال مجموعة من التعديلات على نصوصه القانونية ذات الصلة بالموضوع وعلى رأسها دستور 2011 الذي أشار إلى عدد من المقتضيات لها علاقة بموضوع الجزاء الجنائي كالحق في الحياة مثلا.[27]

  ومسودة مشروع القانون الجنائي لا تخرج عن هذا الإطار. ومن خلال مقاربة مقتضياتها لوحظ أن المشرع عدل وأضاف مقتضيات جديدة تتعلق بالجزاء يروم من خلالها تجاوز سلبيات المرحلة الحالية وهو ما سنقف عنده في "فقرة أولى" نتطرق فيها إلى تجليات تطور الجزاء الجنائي في مسودة المشروع في الجزاء الجنائي، لكنه أيضا حافظ على مقتضيات يمكن القول أنها استمرار للمرحلة السابقة وهو ما سنقف عنده في "فقرة ثانية" نتطرق فيها إلى مظاهر قصور مسودة المشروع بهذا الخصوص.

الفقرة الأولى: تجليات التطور في مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي

يبدو أن مسودة المشروع في أغلب مقتضياتها جاءت مطابقة لروح الدستور وملائمة لفصوله وللاتفاقيات الدولية في هذا الإطار، بحيث حافظت على عدة مبادئ متعارف عليها في التقنينات الجنائية الحديثة كشرعية العقاب ومبدأ شخصية العقوبة ومبدأ تفريد الجزاء الذي يعد أحد المبادئ الأساسية في القوانين الجنائية الحديثة رغم الانتقادات التي وجهت له والتباين الحاصل في تطبيقه.[28] كما أضافت مقتضيات جديدة سنقف عند بعضها بالتفصيل كما يلي:

1 ـ  مسودة المشروع قلصت من الجرائم المعاقب عليها بالإعدام من 33 جريمة إلى 11، ويبدو في هذا الإطار أن المشروع سار على نهج تشريعات بعض الدول الغربية بحيث لم يتخلص من عقوبة الإعدام بصورة نهائية ولكنه قلص منها فقط.

وكما يعلم الجميع أن عقوبة الإعدام أثير نقاش كبير حولها تمخض عنه بروز اتجاهين: اتجاه ينادي بإلغائها نهائيا ويرتكز أصحابه على عدد من التبريرات منها أنها عقوبة غير إنسانية وأن الإبقاء عليها لا يعني أن الجريمة حتما ستنخفض، واتجاه ينادي بضرورة الإبقاء عليها بالنسبة للجرائم الخطيرة كالجرائم الإرهابية والجرائم التي تتسم بالوحشية مثل جريمة اغتصاب الأطفال وقتلهم.

 2 ـ لأول مرة المشروع يتبنى الجزاءات البديلة[29] وجعل منها كبديل للجزاءات السالبة للحرية، وقيدها بمجموعة من الشروط منها ألا يكون الفاعل في حالة عود، كما استبعدها من بعض الجرائم عددها في المادتين 35 – 36 من المسودة.

ويبدو أن المشرع المغربي أدرك أزمة العقوبة السالبة للحرية والآثار المترتبة عنها، لذا تبنى في مسودة المشروع الجزاءات البديلة للجزاءات السالبة للحرية، وهو الطرح الذي نادى به منذ مدة عدد من الحقوقيين والفقهاء[30] .

والجزاءات البديلة للجزاءات السالبة للحرية تقوم على فكرة مؤداها الرغبة في تأهيل المجرم واستعادته في المجتمع وهو الاتجاه الذي تدافع عنه مدرسة الدفاع الاجتماعي الجديدة والذي يعتبر من روادها الفقيه "مارك أنسل[31].

ومن الجزاءات البديلة للجزاءات السالبة للحرية التي أقرها المشروع:

ـ العمل لأجل المنفعة العامة.

ـ الغرامة اليومية.

ـ تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية.

3 ـ المشروع راعى شخصية الفاعل الموجود في حالة سراح حيث يمكن تأخير العقوبة في حقه إذا أدلى بشهادة طبية موقعة من لجنة طبية مكونة من ثلاثة أطباء تثبت إصابته بمرض مستعصي، وهو خيار يراعي ظروف الفاعل الصحية المستعصية.

وهذه الخيارات وأخرى تبرهن على أن المشرع واع بأن مكافحة الجريمة لا تكون دائما بالحكم على الفاعل بالإعدام أو سلب حريته والزج به في السجن وإنما هناك خيارات جزائية أخرى يمكن أن تحد من الجريمة وتساعد على إصلاح وتأهيل الفاعل ويتمكن معها المجتمع من استعادته بما يضمن أمنهما وسلامتهما معا، كما أن تطبيق هذه الجزاءات ليس بالأمر الهين في ظل مجتمع يؤمن بثقافة الانتقام وسلب حرية الفاعل، وهو ما يتعين معه إقناع المجتمع والضحية في نفس الآن بأنها جزاءات حقيقية.

وإذا كانت هذه بعض المظاهر الإيجابية في المشروع فإنه قد حافظ على المظاهر السلبية بهذا الخصوص وهذا ما سنعالجه في الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية: مظاهر قصور مسودة مشروع القانون الجنائي فيما يخص الجزاء الجنائي.

لا يمكن أن ننكر أن مشروع القانون الجنائي تبنى خيارا يروم أنسنة الجزاءات الجنائية من عقوبات وتدابير وقائية، إلا أنه لم يستطع التخلص من المظاهر السلبية التي قد تكون مدخلا لتوجيه سهام النقد إليه من لدن المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية والجمعيات المهتمة بالمجال.

ومن المظاهر السلبية التي نسجلها في هذا الإطار:

1 ـ عدم التخلص نهائيا من عقوبة الإعدام بالرغم مما قيل عنها من كونها عقوبة غير إنسانية وتتنافى مع ما نص عليه دستور 2011 في المادة 20 منه التي تنص على ضمان حق الحياة.

2 ـ الاستمرار في إقرار العقوبات السالبة للحرية القاسية كما هو الشأن بالنسبة للعقوبات المقررة للاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، وهذا الأمر سيؤدي لا محال إلى استمرار الاكتظاظ في المؤسسات السجنية مع ما يترتب عن هذا الأمر من إنتاج مجرمين محترفين وبالتالي الزيادة في الظاهرة الإجرامية.

3 ـ إن بعض الجزاءات التي أقرها المشروع وهي تأخير العقوبة للفاعل الموجود في حالة سراح والذي يعاني من مرض مستعصي يثبت بناء على شهادة طبية موقعة من لجنة طبية مكونة من ثلاثة أطباء، قد يؤدي إلى الإفلات من العقاب إذا سلمت الشهادة الطبية للفاعل لمحاباته ومجاملته لا أكثر، وهو ما قد يدفع الضحية الذي يراقب تنفيذ العقوبة في حق غريمه من الانتقام منه.

وفي هذا الصدد وطالما أن الأمر يتعلق بمجرد مسودة مشروع فإن الفرصة متاحة أمام الجميع من مجتمع مدني وفاعلين سياسيين ومنظمات حقوقية من أجل تجاوز هذه المظاهر السلبية وذلك من خلال عقد لقاءات وندوات قصد تعميق النقاش بشأنها، وكذلك عند طرح المشروع للنقاش أمام البرلمان بغرفتيه مجلس النواب ومجلس المستشارين.

الخاتمة

وفي الأخير نشير أن الجزاء الجنائي الذي يعتبر كرد فعل من المجتمع ضد الجاني هو موضوع شائك ومعقد يتداخل فيه المعطى السياسي مع المعطي الحقوقي والإنساني، فالمشرع ينظر إلى العقوبة في بعض الأحيان كوسيلة لضمان الردع والاستقرار وحماية طمأنينة المجتمع بكل مكوناته، فيسعى إلى تغليظها، وثارة ينظر إليها على أنها لا تحد من الظاهرة الإجرامية بل تزيد من استفحالها إذ الواقع أثبت أن الزج بالفاعلين بالمؤسسات السجنية التي تعاني من الاكتظاظ لا ينتج إلا مجرمين محترفين، فيعمل على تخفضيها، ولهذا نوصي بما يلي:

ـ إشراك الفاعلين والمهتمين قصد إقناعهم أن الجزاءات البديلة للعقوبات السالبة للحرية هي جزاءات حقيقية لتفادي الانتقام مع ما يعنيه ذلك من سيادة العدالة الخاصة والزيادة في عدد الجرائم.

ـ التخلص من الجزاءات القاسية.

ـ توفير مؤسسات سجنية تبعا لدرجة إجرام الفاعلين وصنفهم.

الاحالات

([1])- الخمليشي شرح القانون الجنائي، القسم العام، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرباط طبعة 1، 1985، ص 226.

([2])- الدكتور نور الدين العمراني "شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي" طبعة 2012، المطبعة: مطبعة وراقة سجلماسة، الزيتون مكناس ص 38.

([3])- الدكتورة لطيفة المهداتي، "الشرعية في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية" الطبعة الأولى سنة 2005، المطبعة الشركة الشرقية، الرباط ص 17.

([4])- الدكتور سامي عبد الكريم محمود "الجزاء الجنائي" قسم القانون الجنائي منشورات الجبلي الحقوقية، ص 53.

([5])- في وصف بعض مظاهر التنكيل والتعذيب الذي كان يمارس خلال هذه الحقبة:

FOUCAULT (M), SURVEILLER ET PUNIR, Naissance de la prison, éd, Gallimard, 1975.

([6])- الدكتور سامي عبد الكريم محمود "الجزاء الجنائي قسم القانون الجنائي منشورات الجبلي الحقوقية، ص 53.

([7])- حول المبادئ التي تقوم عليها هذه المدرسة راجع بتفصيل:

(R). Merle et (A), Vitu, op, cit. p : 100 ets…, LAIN GUI et A.LEBIGRE, histoire du droit pénal, TI, cujas 1979 ; Le RASSEUR, STEFAN et JAMBUMERLIN (R), Ciminologie et sciences pénitentiaires, dalloz, 4éme édition, 1980, p : 140 ets…

([8])- الدكتور سامي عبد الكريم "الجزاء الجنائي" قسم القانون الجنائي منشورات الجبلي الحقوقية ص 53، 54.

([9])- الدكتور سامي عبد الكريم "الجزاء الجنائي" قسم القانون الجنائي منشورات الجبلي الحقوقية ص 56.

([10])- الدكتور نور الدين العمراني "شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي" طبعة 2012، المطبعة: مطبعة وراقة سجلماسة، الزيتون مكناس ص 44.

Merle et Vitu : op.cit pp, 114-115. ([11])

-        ورؤوف عبيد، مبادئ عم الإجرام ط 1974 ص 46 وفوزية عبد الستار، مبادئ علم الإجرام وعلم العقاب، دار النهضة العربية ط 1985- ص 285.

([12])- Pau Cornil : l’impasse de la responsabilité », Rev, de drt pen et de crimlg (1961-1962) n°7 p.p. 641-642.

([13])- R.Saleilles : op.cit, 89.

([14])- Merle et Vitu :op.cit p, 119.

([15])- Merle et Vitu : i bidem

([16])- الدكتور نور الدين العمراني "شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي" طبعة 2012، المطبعة: مطبعة وراقة سجلماسة، الزيتون مكناس، ص 46.

([17])- الدكتور سامي عبد الكريم "الجزاء الجنائي" قسم القانون الجنائي منشورات الجبلي الحقوقية ص 60.

([18])- الدكتور نور الدين العمراني، "شرح القسم العام من القانون الجنائي المغربي"، طبعة 2012، مطبعة، مطبعة وراقة سجلماسة، الزيتون مكناس، ص 47.

([19])- الدكتور سامي عبد الكريم "مرجع سابق، ص 60.

([20])- الدكتور نور الدين العمراني، مرجع سابق، ص 48.

([21])- محمود نجيب حسني، "شرح قانون العقوبات"، القسم العام، ص 22، الدكتور نور الدين العمراني، مرجع سابق، ص 48.

([22])- الدكتور نور الدين العمراني، مرجع سابق، ص 48، 49.

([23])- الدكتور سامي عبد الكريم، مرجع سابق، ص 69.

([24])- الدكتور نور الدين العمراني، مرجع سابق، ص 51.

([25])- الدكتور نور الدين العمراني، مرجع سابق، ص 52، 53، 54.

[26] محاضرات في القانون الجنائي العام ذ الطاهر كركري الطبعة الثانية 2015 ص 157

[27] المادة 20 من دستور المملكة لسنة 2011

[28] د لطيفة المهداتي، حدود سلطة القاضي التقديرية في تفريد الجزاء ط 2007 ص 16 و 17.

[29] .المادة 41 من مسودة مشروع القانون الجنائي.

[30] د لطيفة المهداتي ، الشرعية في تنفيذ العقوبات السالبة للحرية ط 2005 ص 66 إلى 71.

[31]  ذ محمد عياط ،السياسة الجنائية وحماية حقوق الحدث الجانح الطبعة الأولى 2006 ص 47.

مواضيع ذات صلة:

بحث حول موضوع مبدأ الشرعية الجنائية

الأسباب المخففة  للجزاء الجنائي

تفريد الجزاء الجنائي


هل اعجبك الموضوع :

تعليقات