القائمة الرئيسية

الصفحات

نظام التوثيق بالمغرب

نظام التوثيق بالمغرب
نظام التوثيق بالمغرب

إن الحياة الاجتماعية والاقتصادية تزداد تطورا يوما بعد يوم، هذا يعني أن العلاقات بين أفراد المجتمع تزداد تشعبا وتعقيدا، وكلما ازدادت هذه العلاقات اتساعا وتداخلا، زادت إمكانية اصطدام مصالح الأفراد. والفقه والقانون يرصدان باستمرار هذا التطور والتغيير، حريصان على عدم وقوع هذا الاصطدام ومع كل هذا فقد يحدث أن يتعدى البعض على حقوق البعض الآخر ظلما وعدوانا بدون وجه حق، لهذا كان على من يدعي حقا أن يثبته، ومن بين الوسائل التي تثبت بها الحقوق الكتابة، التي اعتنى بها الفقهاء وأدى الاهتمام بها إلى ظهور علم التوثيق الذي لعب دورا كبيرا في حفظ الحقوق وإثبات المعاملات، سواء كانت مالية تتعلق بالتجارة والكسب، مثل البيع والشراء، أو كانت قربة لله تعالى مثل الهبة والصدقة والوقف، أو تتعلق بالأسرة مثل الزواج والطلاق ونحوهما.
وأمام تعدد المعاملات وتشعب القوانين أصبح الأشخاص في حاجة ماسة إلى من يوجههم التوجيه القانوني السليم لضبط تصرفاتهم وضمان حقوقهم. ولاشك أن مؤسسة التوثيق هي المؤهلة للعب هذا الدور في المجتمع، وتجدر الإشارة إلى أن خدمات هذه المؤسسة لم تعد مقتصرة على الأشخاص الطبيعيين فحسب، بل أصبحت تقدم مساعدات لبعض المصالح العامة كإدارة التسجيل ومصلحة الضرائب.
إن المتأمل في منظومة التوثيق ببلادنا، يجد نفسه أمام ازدواجية قانونية، تتجلى في وجود نظامين اثنين: أحدهما تقليدي يستمد جذوره من أحكام الشريعة وقواعد الفقه المالكي، ونظام نشأ في فترة الحماية  بذريعة تحديث النظم القانونية وهو يستهدف بالأساس زبناء فرنسيين أو بالأحرى رعايا أجانب خاضعين لاختصاص المحاكم الفرنسية، وللوقوف على حقيقة مفهوم علم التوثيق يجب علينا تعريفه وذكر أصل مشروعيته ثم أهميته وفوائده وأن نسلط الضوء على تطوره التاريخي من خلال مؤسسته في التشريع الإسلامي والتقنين المغربي.
إن التوثيق في اللغة له معنيان، أحدهما الإحكام بمعنى أحكم الأمر والوثيق الشيء المحكم، يقال جمل وثيق، وناقة موثقة الخلق أي محكمته[1]. والثاني الشد والربط من الوثاق، وهو ما يشد به من حبل وقيد ونحوهما، وجمعه وثق كربط ورباط، ويقال وثقته بمعنى ربطته وشددته حتى لا ينفلت، أوثقته إذا جعلته في الوثاق، ومنه قوله تعالى: ﴿فشدوا الوثاق﴾[2] ومنه الميثاق العهد[3] قال تعالى:﴿الذين  ينقضون عهد الله بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون  في الأرض﴾[4]. ويفسر الإمام القرطبي كلمة الميثاق بأنه العهد المؤكد باليمين[5]. وقوله تعالى حكاية على لسان نبيه يعقوب:﴿قال لن أرسله معكم حتى توتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما أتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل﴾[6] يقول الإمام القرطبي عن الأول: بأن معناها عقد يوثق به، والثاني حفيظ للعهد قائم بالتدبير والعدل.[7]
نستخلص مما سبق أن معنى التوثيق في اللغة يطلق على معان عدة، فتارة يأتي بمعنى العقد والإحكام، وتارة بمعنى التقوية والثبوت كما يأخذ معنى الشد والإحكام وقد يراد به الأخذ بالوثاقة والوثيقة، كما يراد به العهد والإيمان.
أما في المعنى الاصطلاحي، فقد عرف بعدة تعريفات لكنها لم تخرج  في مجملها عن المعاني اللغوية، وهكذا يعرفه ابن فرحون: "هي صناعة جليلة  وشريفة  وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء  المسلمين وأموالهم، والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم، وبغير هذه الصناعة لا ينال ذلك، ولا يسلك هذه المسالك"[8].
ويعرفه الونشريسي: "بأنه من أجل العلوم قدرا وأعلاها إنابة وخطرا، إذ بها تثبت الحقوق ويتميز الحر من المرقوق، ويوثق بها ولذا سميت معانيها وثاقا"[9].  
أما الفقيه عبد السلام الهواري فيقول عن هذا العلم : "هو من أجل العلوم قدرا وأعلاها إنابة وخطرا إذ تضبط أمور الناس على القوانين الشرعية، وتحفظ دماؤهم  وأموالهم على الضوابط المرعية، وهو أقطع شيء تنبذ به دواعي الفجور، وترمى وتطمس مسالكها الذميمة وتعمى"[10].
ويصفه الإمام السرخسي: " علم الشروط من أكد العلوم وأعظمها صنعة"[11].
وبعد استقراء هذه الأقوال يمكننا إبداء الملاحظات التالية: أن للتوثيق عدة إطلاقات: فمن الفقهاء  من يسميه علم التوثيق، ومنهم من يستحسن فن[12] التوثيق، وآخرون يستلطفون صنعة التوثيق. فمن حيث تعلقه بالفقه فهو علم، لأن الموثق مطالب بأن يكون ملما بجميع النوازل والأحكام الفقهية وبهذا يكون التوثيق من فروع الفقه باعتبار المعنى، ومن حيث تعلقه بشكل الوثيقة، ضوابطها ومدلولاتها وطريقة صياغتها، فمن حيث هذه الجهة يعتبر التوثيق فنا، أما من حيث رسم الوثيقة، فهي صنعة قد يتفنن فيها بعضهم بتحسينها وتنظيمها وتنميتها، ورسم حروفها طبقا لقواعد الخط العربي.
كما أننا نجد تعددا في تسمية هذا العلم، فمن الفقهاء من يسميه علم الوثائق[13] وآخرون علم الشروط، والبعض الآخر علم العقود[14] وإطلاق هذه المصطلحات على هذا العلم من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه، فالعقود والوثائق تحتوي على الشروط التي يلتزم المتعاقدان مراعاتها في مجال المعاملات، وعلى الشروط اللازم تواجدها  في الوثيقة لقبولها في مجال التصرفات الانفرادية[15].
وعلم التوثيق،معناه في الحقيقة لا يقتصر على مجرد إثبات الحقوق وتنظيم المعاملات، بل له مفهوم واسع يشمل مختلف المجالات المعرفية والعلمية، فعندما يرتبط التوثيق بالإدارة، فهذا يعني حفظ الوثائق والرسائل والمعلومات والإحصائيات، وتبويبها وتنظيمها بحيث يسهل الرجوع إليها والاستفادة منها. وإذا تعلق الأمر بمجال الحديث الشريف، فهو بالضبط يعني ما يتناوله علم الجرح والتعديل في مجال رواية الحديث، من ضبط إسناده وكلماته وطريقة نقله، وإذا تعلق بمجال الأنساب، فيعني حفظ الأسر والبطون والأفخاذ والقبائل وعلاقتها في القرابة والدم، وما شابه ذلك. وإﻨا تعلق بالتاريخ يعني ذلك التثبت من الوقائع التاريخية والتحقق من الأحداث ونقلها بكل دقة وأمانة.
وفيما يخص مشروعية هذا العلم فهو يستمدها من الكتاب والسنة، بحيث وظفت مادة الكتابة في آيات كثيرة باعتبارها أهم وسيلة للتوثيق، وحفظ الواقعة على مر الزمن، حتى يرجع إليها فيما بعد ﻹتبات المكتوب، وإن كانت أغلب تلك الآيات لم تذكر فيها الكتابة ﻹثبات المعاملات المالية كما هو الشأن في المجال القضائي، لكن الكتابة ذكرت فيها ﻹتبات أعمال العباد ومواجهتهم بها يوم القيامة، حتى لا يجدوا حيلة ينكرون بها ما كانوا يفعلون في الدنيا ولذلك فهي تحمل إشارات واضحة إلى فائدة الكتابة في اﻹتبات في المجال القضائي الدنيوي[16].
ومن الآيات التي تفيد إثبات أعمال العباد في المجال القضائي اﻷخروي نجد قوله تعالـى: ﴿إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما  قدموا وآثارهم﴾[17]. وقـولـه تعـالى:﴿ ستكتب شهادتهم ويسألون﴾[18] وقوله: ﴿ورسلنا لديهم يكتبون﴾ [19]، وقوله: ﴿ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه وتقولون يا ويلتنا مال  هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم  ربك أحدا﴾[20]، فهذه مجموعة من الآيات تفيد أن الله تعالى يوثق أعمال عباده لتكون  حجة عليهم يوم القيامة، أما الآيات التي تفيد صراحة إثبات المعاملات المالية في المجال القضائي الدنيوي: ومن تلك الآيات آية المداينة لقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق  سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع  أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما  فتذكر إحداهما الأخرى، ولاياب الشهداء إذا ما دعوا، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا، إلا أن تكون  تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها، وأشهدوا إذا تبايعتم  ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا  فإنه فسوق بكم واتقوا الله ،ويعلمكم الله والله  بكل شيء عليم. وإن كنتم  على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ،فإن  أمن بعضكم بعضا  فليؤد الذي أؤتمن أمانته، وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه  آثم  قلبه والله بما تعملون عليم﴾[21].
هذه الآية تتناول الديون الآجلة والحقوق العاجلة، فالآجلة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه﴾[22] والعاجلة هي المذكورة في قوله تعالى: ﴿إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها﴾[23] فأمر في الحقوق الآجلة بالكتابة والإشهاد (فاكتبوه)[24] وقوله: ﴿وأشهدوا شهيدين من رجالكم﴾[25] وفي الحقوق العاجلة أمر بالإشهاد وحده ﴿وأشهدوا إذا  تبايعتم﴾[26] فالحزم في الديون الآجلة أن تكتب ويشهد عليها.
والقرآن الكريم ذكر الإشهاد في سبعة مواضع: الدين في قوله تعالى: ﴿واشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾[27] والطلاق في قوله: ﴿واشهدوا ذوي عدل منكم﴾ [28] ثم البيع قوله تعالى: ﴿واشهدوا إذا تبايعتم ﴾[29]، والوصية لقوله عز وجل: ﴿ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، إتنان ذوا عدل منكم﴾[30].

 كما ورد الإشهاد في الزنا في قوله تعالى: ﴿ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم﴾ [31]، وكذلك في القذف لقوله عز من قائل: ﴿ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين﴾ [32]، والرجعة في قوله تعالى: ﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾[33].
أما مشروعيته من السنة النبوية فقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم عناية فائقة للكتابة، لأن إدارة شؤون الأمة وتسيير دواليب الحكم تتوقف عليها، وعنايته صلى الله عليه وسلم بالكتابة كوسيلة للتوثيق تجلت في توثيقه لعدة أمور منها: توثيق القرآن الكريم حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كتابه  فور نزول الآية بتوثيقها بالكتابة وتدوينها، روى البخاري عن البراء ابن عازب قال: ﴿ لا يستوي  القاعدون من المؤمنين﴾[34]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أدع لي زيدا وليجيء باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة" ثم قال: ( اكتب لا يستوي القاعدون... الآية )[35]. كما ثبتت عنايته صلى الله عليه وسلم بتوثيق السنة حيث حصل إجماع من طرف أهل العلم على إباحة الكتابة لتوثيق السنة، وبالتالي زال الخلاف الحاصل بشأن النهي عن الكتابة، ويدل هذا الإجماع على أحد أمرين: إما على أن النهي لم يكن عاما ولا دائما، وإما على أن النهي قد نسخ بالإباحة. إذا لا يجوز  الإجماع  على خلاف النص، وهذه بعض الأحاديث تبين حكم إباحة كتابة السنة: منها حديث عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضى؟  فـأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: "أكتب  فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حقا"[36]. وقد ورد في الخبر توثيقه صلى الله عليه والسلم في القطائع التي كان يقطعها للصحابة حيث روى أن الداريين وفدوا عليه فسألوه أرضا، فدعا بقطعة من أدم وكتب لهم: "بسم الله الرحمان الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري: أن له قرية حيرون وبيت عينون، قريتهما كلهما وسهلهما وجبلهما، وماءهما وحرثهما وأنباطهما وبقـرهما ولـعقبه من بعد لا يحاثه فيها أحد، ولا يلجها عليهم أحد بظلم فمن ظلم وأخذ منهم شيئا فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكتب علي"[37]. 
والقصد من هذا التوثيق، هو عدم منازعة الداريين في ملك أو منفعة هذه الأرض التي قطعها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك توثيقه صلى الله عليه وسلم للعهود والمعاهدات، فقد ورد أنه كتب عهد التولية لبعض الصحابة، كعمرو بن حزم حيث بعثه على نجران وأعطاه كتابا، والهدف من كتابة العهد هو إضفاء الصبغة الرسمية على التولية.
أما المعاهدات، فهدفها تحديد العلاقة بين الدولة وغيرها من الدول، وتترتب عليها حقوق وواجبات ملزمة لكل الأطراف المبرمة لها، وأبرز المعاهدات على عهد رسول الله صلى  الله عليه وسلم صلح الحديبية.
كما تبث عنه أنه وثق صلى الله عليه وسلم عقد البيع الذي تم بينه وبين العراء بن خالد بن هوذة ونصه: "بسم الله الرحمان الرحيم، هذا ما اشترى العراء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى منه عبدا لا داء ولا غائلة ولا خبتة بيع المسلم للمسلم". ويقول بن عباس رضي الله عنهما من ترك الإشهاد على البيع فهو عاص، وقال مجاهد لا تستجاب دعوة رجل باع ولم يشهد ولم يكتب[38].
من خلال هذه الآيات والأحاديث، يتبين أن الشريعة الغراء اهتمت بالكتابة والتوثيق أزيد من خمسة عشر قرنا، غايتها المحافظة على حقوق الأفراد من كل جحود أو إنكار.
إن علم التوثيق يحتل منزلة رفيعة ومكانة عالية بين العلوم، لأنه يرسم خطوط كل معاملة وينظم سيرها، ويحدد مدى نشاطها طبقا لنصوص التشريع، وقواعد العرف الثابت وآراء الفقهاء، وما جرى عليه عمل القضاة. وهو علم شهد له أجلاء العلماء بالشرف وبالبضاعة المنيفة أمثال إبن فرحون، وابن عرضون والفقيه الهواري رحمهم الله. وأحسن ما قيل عن هذا العلم ما جاء في المنهج الفائق للونشريسي: "أما بعد فإني لما رأيت علم الوثائـق من أجل ما سطر في قرطاس، وأنفس ما وزن في قسطاس، وأشرف ما به الأموال والأعراض والدماء والفروج تستباح وتحمى، وأكبر  زكاة للأعمال وأقرب رحما، وأقطع ما به تنبذ دعاوي الفجور وترمى وتطمس مسالكها الذميمة وتعمى"[39] .
وإذا كان معظم الفقهاء أثنوا على أهمية علم التوثيق، فهذا لا يعني أن هذا العلم عرف دائما الترجيح والمديح، فقد صرح العالم الأديب لسان الدين  بن الخطيب بتحامله على الموثقين  في مصنفه الذي سماه  مثلى الطريقة في ذم الوثيقة، عدد فيه مثالبهم وجهلهم وغباءهم، إذ يبدأ بوصف حال الموثقين كما هو الواقع المعاش،  تم يتحدث عن موقع مهنة التوثيق من الورع، ثم بعد ذلك، يصنفها ضمن المهن التي تحوم حولها الشبه. قال: "فما الفرق بينه وبين سائر الفعلة من اﻷساكفة والخرازين، والحاكة وأرباب أسواق المضغ من الخبازين والسفاجين وكثيرا من أرباب المهن".[40] وبعد ذلك يفحص عن أحوال منتحليها  من حيث العلم، وأخيرا يخوض في أحوال الموثقين من جهة استقامة الرزق وانحرافه، وبين الفرق بين الطريقة التي يسلم بفضلها هذا العلم وبين حالة الموثقين في عصره والتي صارت إلى فساد.
وقد تصدى لهذه الرسالة مجموعة من الفقهاء، أمثال الونشريسي والمقري ومحمد التطواني وعبد الله كنون.
فقد وجد القاضي عياض بخط الإمام الونشريسي رحمه الله على ظهر كتاب ابن الخطيب الآنف الذكر ما يلي:"الحمد لله جامع هذا الكلام المقيد بهذا الزمام  قد كد نفسه في شيء لا يعني الأفاضل، ولا يعوض  عليه في الدنيا بطائل، وأفنى من نفيس عمره في التماس  مساوئ طائفة بهم تستباح الفروج، وتملك مشيدات الدور والبروج وجعلهم  أضحوكة لذوي الفتك والمجانة، وانـتزع عنهم جلباب الصدق والديانة سامحه الله وغفر له"[41] .
أما فيما يتعلق بفوائد علم التوثيق فإنه من الصعوبة الحديث عن جميع فوائده، لكن يمكن حصرها في: صيانة الأموال وحفظها من الضياع: وقد أمرنا الله تعالى بذلك في محكم كتابه قائلا ﴿ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما﴾[42] وهو ما يدعو إلى الالتزام بالتوثيق  في المعاملات بواسطة الكتابة، حتى تتم المحافظة عليها إذ لا يمكن القول أن شهادة الشهود تغني عن الوثيقة. لماذا؟ لأنهم عرضة للموت في أي لحظة أو للسجن أو أن يوجد لديهم ما يمنعهم من التمكن من الحضور أمام القاضي، وقد  يرد القاضي شهادتهم لقصور فيها أو لفسقهم، أو قد يغيروها طمعا في مال يأخذونه من المدعى عليه، أو خوفا من عقاب ينزل بهم، أو قد لا يستطيعون أن يعوا ما يراد إشهادهم عليه لكثرة تفرع الشهادة كوقف مشتمل على أجزاء كثيرة.[43]
قطعه للمنازعة بين المتقاعدين حيث إذا وجدت وثيقة مكتوبة تكون أدعى لفض النزاع والخصام الذي يحدث بين الناس في معاملاتهم، وخصوصا إذا حاول أحد أطراف العقد أن ينكر الحق الذي عليه، فإنه لا يستطيع ذلك لعلمه بوجود الوثيقة، وللتوضيح  أكثر أضرب المثال التالي: إذا فرضنا أن شخصا باع لشخص آخر أرضا بثمن معلوم مؤجل إلى أجل معلوم. ولم يكتبا بذلك وثيقة، ومضى على ذلك زمن فإنه قد يحدث النسيان لهما، فينسيان مقدار الثمن كما ينسيان مقدار الأجل، فعند المطالبة بالثمن يحصل بينهما النزاع في الثمن، قد يحصل كذلك في مقدار  الأجل، وبكتابة الوثيقة  يمنع ذلك لأنهما يرجعان إليها فيعرفان الحقيقة في مقدار الثمن والأجل.[44]
إثباته للحقوق: إذ بواسطة التوثيق يستطيع الإنسان أن يثبت حقه أمام القضاء، إذا كانت الوثيقة مكتوبة بطريقة مستوفية للشروط اللازمة، عندئذ تكون أدعى للإثبات وأقوى للحجة وقرينة للمدعي في إثبات حقه، وبينة كافية للحصول عليه.[45]
كذلك التحرز من العقود الفاسدة: فالمتعاقدان قد لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقود، فإن عقدا وثيقة فيما بينهما ولم يتجها إلى موثق مختص في إبرام العقود فقد يكون العقد مشتملا على ما يبطله، فيبقى عقدهما هذا قابلا للنقض في المستقبل.
هذا عن أهمية وفوائد علم التوثيق فماذا عن تطوره التاريخي؟
ظهر علم التوثيق في التشريع الإسلامي بنزول القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك من آية المدانية السالفة الذكر، وبهذا يكون التشريع الإسلامي له السبق في النص على مبدأ الإثبات في المجال المدني، ويعتبر كذلك الأساس في ظهور التوثيق الذي بقي يتطور إلى يومنا هذا، ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها التوثيق في الفقه الإسلامي إلى ثلاثة مراحل كبرى:

المرحلة الأولى: من العهد النبوي إلى القرن الثالث الهجري، وفيها نجد النبي صلى الله عليه وسلم كتب جميع المحالفات والمعاهدات مع القبائل والملوك، وقد حفظ لنا التاريخ أقدم  كتاب عقده رسول الله  صلى الله عليه وسلم، أورده السيد عبد الحي الكتاني في كتابه التراتيب الإدارية، وهذا  نموذج لتلك الوثائق : بسم الله الرحمان الرحيم  "كتاب من محمد رسول الله لفتاه أسلم، إني أعتقك لله عتقا مقبولا، الله أعتقك وله المن علي وعليك، فأنت حر لا سبيل لأحد عليك، إلا سبيل الإسلام وعصمة الإيمان، شهد  بذلك  أبو  بكر وشهد  عثمان  وشهد  علي  وكتب معاوية  بين  أبى  سفيان"[46]. كما حفظ لنا التاريخ وثائق للخلفاء الراشدين نذكر منها وثيقة لعمر بن الخطاب التي تصدق فيها بأرض له تدعى تمغ ومما جاء فيها: "هذا ما كتب به عمر بن الخطاب صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث، على الفقراء والمساكين وذوي القربى وفي سبيل الله، وابن السبيل ولا  جناح على من وليها أن يوكل منها بالمعروف"[47].
 أما في عهد التابعين فلم تختلف وثائق هذا العصر عن الفترتين السابقتين، لما بينهما من اتصال وارتباط مباشر، وقد أورد النسائي في سننه وثيقة في موضوع المزارعة جاء فيها: "هذا كتاب كتبه فلان بن فلان بن فلانة في صحة منه وجواز أمر لفلان ابن فلان أنك دفعت إلي جميع أرضك التي بموضع كذا في مدينة كذا مزارعة، وهي الأرض التي تعرف بكذا وتجمعها حدود أربعة يحيط بها كلها، وأحد تلك الحدود بأسره لزيق كذا والثاني والثالث والرابع، دفعت إلى جميع أرضك هذه المحدودة في هذا الكتاب"[48].
يقول أحد قضاة التوثيق معقبا عن هذه الفترة: "تمتاز الوثائق في عصر النبوءة وبعده بكونها خالية من الحشو، بعيدة عن التطويل عارية عن التلفيف، لم يوت فيها بصيغة معينة، والسبب في ذلك أن التشريع الإسلامي كان في مبدئه غضا طريا لم تخالطه فلسفة الفقهاء ولا أقضية الفلاسفة، وكانت النوازل قليلة، والترافع إلى الحكام ضئيلا ولم تكن المخالطات كثيرة بحيث تبحث عن الإكثار من كتب الشروط وتحبير العقود، وكان الناس منصفين لا يسلكون سبيل الشروغ والتنصل من أداء الحقوق، وكلهم يعرفون اللسان العربي المبين ومدلولات الألفاظ العربية، ولم تكن الحالة داعية التأنف في التلفيق  والتوسيع في تمطيط الوثائق وتمديد فصولها".[49]
وتمتد المرحلة الثانية: من أواسط القرن الثالث إلى القرن العاشر الهجري حيث عرف علم التوثيق تطورا مهما بسبب انتشار المذهب المالكي في الأقطار الإسلامية ولاسيما الأندلس والمغرب، وهكذا ما إن أقبل القرن الثالث الهجري حتى بدأت هذه الصناعة  في الذيوع والظهور، ولعل أقدم كتاب ألف في هذا القرن هو كتاب  ابن حبيب الفقيه المشهور  صاحب الواضحة وغيرها، أما إذا كان شخصا غيره سيضل كتاب محمد بن سعد القرطبي المعروف  بابن الملون هو أقدم كتاب[50].
ومن الذين صنفوا في القرن الرابع محمد بن يحيى بن لبابة القرطبي الشهير بالبرجون، وأحمد بن عبد الله الشهير بابن العطار، وعلى الرغم من ظهور كثرة المؤلفات في هذا القرن إلا أن القرن الخامس الهجري كان من أجل عصور التوثيق وأكبرها، يقول العلامة الغازي الحسيني معلقا على هذه المرحلة: "وكان القرن الخامس من أجل عصور التوثيق وأكبرها خدمة لهذا  الفن، فيه ظهر حذاق الموثقين بالأندلس، وفيه ألفت كتب  توثيقية نفيسة إليها يرجع  الفقهاء والقضاة وعليها يعتمد الموثقون، ومن أشهر موثقي هذا القرن كان هناك  أحمد بن مغيث الطليطلي، وعبد الرحمان المعروف بابي الحصار".
وظهر خلال المائة السادسة موثقون جدد نذكر من بينهم رائد الصناعتين التوثيقية  والقضائية: علي بن عبد الله بن إبراهيم الأنصاري المدعو المتيطي، وكذلك يوسف بن  عبد الله بن سعيد الأندلسي.
أما القرن السابع فمن بين الملاحظات التي ينبغي تسجيلها، هو ظهور التأليف في علم الوثائق لحد قارب العدم، نذكر من أسهم في هذا القرن محمد بن عيسى الشهير بابن المناصف واحمد بن خلف بن يحيى الهاشمي البلنسي الأندلسي، أما القرن الثامن فقد عرف نهضة متجددة في التأليف التوثيقي، أسهم فيه المغاربة إلى جانب الأندلسيين، بكتابات متطورة عرفت بعض التعقيد في صياغتها بإدخال المواجب اللفيفية، وتضمينهم الوثائق أحكام قضائية.
ومن بين الموثقين المغاربة خلال هذا القرن: محمد بن أحمد بن عبد الملك الفشتالي، وخلال القرنين التاسع والعاشر ظهر كل من الفقيهين أبو العباس أحمد والونشريسي مؤلف غنية المعاصر وكتب أخرى قيمة  في علم التوثيق، وكذلك الفقيه علي بن هارون التلمساني خطيب فاس المتوفي سنة 951 هـ وقاضي فاس عبد الواحد بن أحمد الونشريسي المتوفي سنة 955 وعبد الرحمن بن إبراهيم الدكالي سنة 962هـ[51].
المرحلة الثالثة وتبدأ من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر، ونجد من موثقي هذه المرحلة عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي، ومحمد بن أحمد بناني، الملقب بفرعون، وفي أوائل القرن الرابع عشر ألف القاضي عبد السلام بن محمد الهواري شرحا على الوثائق الفرعونية، بين فيه فقه كل وثيقة وأصلح فيها الأخطاء الفنية، غير أن أبرز شخصية في هذا القرن بلا منازع هو الشيخ أبو الشتاء الصنهاجي الحسيني  المتوفي سنة 1945 م شارح الوثائق  الفرعونية.
وتأتي بعد ذلك مرحلة التقنين التي تعتبر آخر مرحلة بالنسبة لتاريخ التوثيق بالمغرب، ففيها صدرت قوانين متعددة، كان الهدف منها هو ضبط خطة العدالة، هذه الخطة كانت امتدادا للتوثيق الأصيل المستمد من الفقه الإسلامي، في المقابل نجد ظهور قسم خاص من التوثيق خلفه الاستعمار يخضع لقانون عصري مقتبس من القانون الفرنسي.
فبالنسبة لمؤسسة التوثيق التقليدي يمكن تقسيم المراحل التي مر بها ببلادنا إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة ما قبل الحماية، ومرحلة ما بعد الحماية.
ففي المرحلة الأولى كانت مؤسسة التوثيق دائما في بلادنا محط اهتمام ملوك المغرب، ويتجلى ذلك في التدخل الفوري والمباشر لإصلاح هذه المؤسسة كلما دعت الضرورة، لذلك فالسلطان أبى عنان المريني عمل على إصلاح هذه المؤسسة عن طريق التقليل من عدد العدول في كل مناطق البلاد، والاقتصار على من تتوفر فيهم الشروط اللازمة لذلك، ويذكر أن السلطان لما أمر بالاقتصار على عشرة من الشهود بمدينة مكناس، وكتب من بينهم اسم الفقيه  الفرضي القاضي أبي علي عثمان بن عطية الونشريسي شق ذلك على بعض العدول لحداثة سنه[52].
وفي عهد المولى الحسن الأول نجده أسس ضابطا عدليا، بعث به إلى جميع القضاة وأوجبهم  العمل به سنة  1299 هـ ومما جاء فيه: "كما بلغنا أن طائفة  من العدول، أذن لهم في الشهادة من غير اعتبار الشروط التي شرطناها، ولا وقوف مع الحدود التي بنيناها وحددناها، واتخذ منهم ومن الأعوان والوكلاء اشتراك للطعم وجسور بناها التهور والهلع، وتعد للاستثمار بها حالتي الحرب والسلم هذا مع أنا بالغنا في اختياركم لتطهير الصحيفة، وإبعاد ساحة الشريعة عن الأمور الشنيعة  المخيفة، واختبرنا وخبرنا  وانتقينا وأنقينا، ولكن حق  الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم، الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة"[53]. وفي عهده اهتم بشروط التوثيق في ميدان الوقف حيث وجه كتابا إلى قضاة مراكش سنة 1299م، وأمر بالعمل بموجبه عندما كثر التداعي والنزاع الناشئ عند تساهل عدول البادية، وتقليدهم الشهادة من غير اعتبار لشروط التوثيق[54]. كما وضع السلطان مولاي عبد العزيز ضابطا عدليا من نوع آخر، يهتم بالمعاملات والمخالطات التي تقع بين التجار والأجانب والرعايا المختلفة، وقد وجه هذا الظهير إلى قضاة المملكة ومن بينهم  أحمد بن سودة.[55]
أما مرحلة ما بعد الحماية فقد صدر أول ظهير في هذا الشأن بتاريخ 7 يوليوز 1914م، ينظم القضاء الشرعي ونقل الملكية العقارية في المملكة، وقد نظم هذا الظهير في مجموعة من فصوله التوثيق الإسلامي وأول ما بدأ به، هو التأكد من أهلية العدول وكفاءتهم[56].
وكان المشرع في هذا الظهير يميز بين صنفين من العدول، مجموعة لها صلاحية تلقي وكتابة جميع الشهادات والاتفاقيات، والأخرى تتلقى أنواعا منها فقط.[57]
وهذا الظهير كان يلزم العدلين بأخذ الإذن من القاضي قبل التلقي، إلا في الحالة التي يطلب منهم الحضور لتلقي تصريحات شخص مشرف على الوفاة، حيث يجوز لهم تلقي شهادته دون الحصول على هذا الإذن.[58]
وبعد هذه الفترة صدر ظهير 23 يونيو 1938 الذي كان يعتبر القانون الأساسي للعدول، حيث بين هذا الظهير الطريقة التي يتم بها اختيار العدول وكيفية إجراء امتحان العدول في الخطة، وكذلك تعرض هذا الظهير إلى العقوبة التأديبية للعدول حيث جعلها بيد وزارة العدل في شخص الوزير.
إلا أن هذا الظهير لم يتعرض في فصوله إلى كناش الجيب الذي تم إحداثه بمقتضى منشور وزاري بتاريخ 4 فبراير 1936، الذي الغي وعوض بمنشور 24 يونيو 1943 والذي أصبح يفرض على كل عدل مسك كناش الجيب لحصر جميع ما يتلقاه من الشهادات، أو ما يمليه من حفظه في كل يوم على حدته [59].
وبعد ذلك صدر ظهير 7 فبراير 1944 المتعلق بتنظيم المحاكم الشرعية في المملكة، بعد إلغاء ظهير 7 يوليوز 1914، وأول ما نص عليه هذا الظهير هو ضرورة مسك كل عدل لكناش الجيب يدون فيه العناصر الأساسية للاتفاق.[60]
بعد ذلك قام المشرع مؤخرا بإعادة تنظيم خطة العدالة، وضبطها وفقا للظروف الاجتماعية والاقتصادية، فأصدر ظهير شريفا بتاريخ 6 ماي 1982 ينظم كيفية تلقى الشهادة، وتحريرها، ومرسوما تطبيقيا لهذا الظهير بتاريخ 18 أبريل 1983 تناول فيه طريقة تعيين العدول ومراقبة الخطة، وحفظ الشهادات وتحريرها وتحديد الأجور، وهكذا نص الفصل الأول من ظهير 6 ماي 1982 على اعتبار خطة العدالة مهنة حرة[61]. تم صدرت مناشير عديدة ودوريات عن وزارة العدل، الهدف منها توضيح أو تتميم ما جاء في تلك الظهائر. وهذه نماذج منـها: منشور عدد 11/ 60 بتاريخ 26/4/ 1960 حول زواج وطلاق الجنود والضباط، ومنشور عدد 12/60 بتاريخ 24/4/1960 حول نكاح المغاربة للأجانب، كذلك منشور عدد 21/64 بتاريخ 29/12/1964 حول تحرير الرسوم بخط واضح وأسلوب سهل، كما صدرت رسالة دورية رقم 24123/2 بتاريخ 2 يوليوز 1982 حول عقد أنكحة الجنود، وأخرى برقم 76621/2 بتاريخ 25 دجنبر 1986 حول عدم إلزام العدول بطبع الشهادات على الآلة الكاتبة، وثالثة بعدد 18693/2 بتاريخ 25 ماي 1987 حول عدم إطلاق العدول على أنفسهم صفة موثق.
هكذا نكون قد أعطينا نظرة موجزة عن تطور التوثيق العدلي والتشريعات التي نظمته، وننتقل للحديث عن القسم الثاني من أقسام التوثيق في بلادنا، وهو التوثيق العصري.
لما كان التوثيق العصري في بلادنا مصدره نظام التوثيق الفرنسي، نرى من الفائدة قبل الحديث عن هذه المؤسسة في المغرب، أن تلقي نظرة مختصرة عن تطورها في فرنسا.
إن مؤسسة التوثيق في فرنسا موغلة في القدم، يعود أصلها إلى مئات السنين، بحيث نجدها قد تأثرت بالحضارات العريقة كالرومان، والبابليين والبزنطيين، حيث كان الموثقون كتابا عموميين يكتبون الاتفاقات بين الأطراف فقط. وهؤلاء الذين  شكلوا النواة الأولى لظهور الموثقين[62]. أمــا في الحضارة الرومانية ظهر ما يسمــى بالكــاتب بالعــدل  Tabellione  Le حيث كان العقد يحرر من قبله ،ويقوم  شاهدان بوضع طابعها عليه، إلا أن هذا الأخير كان لا يتصف بصفة الموظف العمومي  وبالتالي  فإن الاتفاقات التي يحررها لم تكن لها قوة الإثبات[63]، ويعتبر CHARLEMAIY   أول من أسس  التوثيق المرتبط  بالقضاء في فرنسا، بحيث كان الموثق كاتب ضبط وكان على هذا الأخير أن يضع توقيعه على  العقد الذي حرره، حتى يعطيه قوته التنفيذية، فالتوثيق كان فرعا من السلطة القضائية[64]. وفي سنة 1304 صدر قرار ملكي أوجب فيه على الموثقين أن ينشئوا سجلات يكتبون فيها القضايا  والشروط التي يمليها الأطراف، وكذلك قيمة الضرائب المحصل عليها.
ولما كانت محررات الموثقين في فرنسا تتم باللغة اللاتينية، فقد تدخل المشرع الفرنسي حفاظا على وحدة لغة البلاد بمقتضى قرار 1539، فألزم الموثقين بالتخلي عن اللغة اللاتينية واستعمال اللغة الفرنسية في كتابة محرراتهم[65]، وحتى يتم احترام هذه المقتضيات من قبل الموثقين الفرنسيين، تدخل المشرع بمقتضى القانون الثاني THERMIDOR السنة الحادية عشرة لوضع حد لهذه الوضعية، فحدد عقوبة الحبس لمدة ستة أشهر لكل موظف عمومي يستعمل لغة أخرى غير لغة البلاد. وقد عرضت القضية على أنظار محكمة النقد الفرنسية بتاريخ 4 غشت 1859، فقضت ببطلان المحرر الذي تم بغير اللغة الفرنسية مبررة قرارها بضمان وحدة اللغة الوطنية.[66]
وفي 16 مارس 1803 صدر القانون الأساسي لنظام التوثيق الفرنسي والذي يطلق عليه قانون 25 فانتوز Ventôse السنة الحادية عشرة، وأعقب ذلك صدور جملة من التشريعات مصاحبة لما يطرأ على المجتمع الفرنسي من تغييرات لتجعل هذا النظام مسايرا لها[67].
أما التوثيق العصري فقد ظهرت معالم نظامه في التبلور مع دخول الاستعمار، إلى أن انتظم بظهير 4 ماي 1925، وهكذا جاء ظهير 10 شوال عام 1343 هـ الموافق 4 ماي 1925 م لينظم  مهنة التوثيق الفرنسي بالمغرب، والملاحظ أن مشرع الحماية لم يأت بهذا النظام لمصلحة المغاربة، بل لمصلحة الفرنسيين الأجانب. إن ظهير 4 ماي 1925 المنظم للتوثيق العصري قد أخذ عن القانون الأساسي للتوثيق  الفرنسي، الذي يطلق عليه قانون 25 فانتوز السنة الحادية عشر الصادر بتاريخ 16 ماي، 1803 والملاحظ أن هذا الظهير لا يزال يحكم مؤسسة التوثيق العصري في بلادنا، رغم مرور أزيد من خمسين سنة على استقلال المغرب، ورغم توحيد القضاء تعريبه  ومغربته سنة 1965، ويتضمن هذا الظهير ثمانية أبواب:
بخصوص الباب الأول، تم التنصيص في فصوله على اعتبار الموثق موظفا عموميا، ويمكن له أن يتلقى الاتفاقات سواء في شكلها الرسمي أو العرفي، كما ألزم المشرع الموثقين بتقديم النصائح الكافية للأشخاص الماثلين أمامهم، وإطلاعهم على الآثار المترتبة على العقد المراد إبرامه، كما ألزمهم بالقيام بإجراءات التسجيل وتقييد الرهون العقارية، وكذلك القيام بإجراءات النشر والإعلام، ناهيك عن تعرضه إلى الاختصاص الترابي للموثقين، كما بين اختصاص كل من الموثقين والعدول بالنسبة للتوثيق في ميدان العقارات المحفظة وغير المحفظة.
أما الباب الثاني من هذا الظهير، فيتعلق بمحل إقامة الموثقين وكيفية تعيينهم، والشروط التي ينبغي توافرها فيمن يريد الولوج إلى مهنة التوثيق، والمدة التي يجب قضاؤها في التمرين، والأشخاص الذين يمكن إعفاؤهم من التمرين، وكذلك تطرف للرواتب التي يتقاضاها الموثقون.
أما الباب الثالث من الظهير، فقط نص على المحررات الموثقة، وحجيتها وأصول الوثائق، ونسخها التنفيذية والسجلات، وأحال بعد ذلك على المقتضيات الواردة في القانون 25 فانتوز السنة الحادية عشر، كما تطرق إلى بضع الإضافات والتعديلات التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند تطبيق هذه المقتضيات على التوثيق العصري في بلادنا.
أما الباب الرابع منه، فتعرض للمسائل التي يمنع على الموثقين القيام بها احتراما للمهنة، وحفاظا على الثقة التي ينبغي التحلي بها.
أما الباب الخامس، حدد العقوبات التأديبية التي يمكن أن تطبق في حق كل موثق أخل بمقتضيات المهنة.
والباب السادس من الظهير، تطرق لمهام التوثيق المسندة لرؤساء كتابة ضبط محام الصلح آنذاك، التي لم يكن يوجد موثقون في دوائر اختصاصها.
أما الباب الثامن والأخير فتعرض فيه لمقتضيات انتقالية هذه نظرة موجزة عن مؤسسة التوثيق العصري المنظمة بظهير 4 ماي 1925، الذي أصبحت أغلب مقتضياته لا تتلاءم مع التوحيد والتعريب والمغربة، ولا تتناسب مع الظروف والمعطيات الجديدة لبلادنا[68].
إن توثيق المعاملات بين الأفراد مهمة جسيمة لا يمكن أن يقوم بها إلا أشخاص مؤهلون يتمتعون بالكفاءة القانونية الكافية والتجربة المهنية الضرورية، ومنضوون تحت إطار قانوني يضمن تأهيلهم أولا، ومراقبتهم والإشراف عليهم ثانيا، ولن تتوفر هذه الشروط والضمانات إلا في العدول والموثق.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] - جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور: لسان العرب، دار الجيل، بيروت، مادة وثق ج 6، صص: 876-877
[2] - سورة محمد الآية: 4.
[3] - محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: مختار الصحاح، دار الفكر العربي، القاهرة، صص: 708-709.
[4]  - سورة البقرة الآية: 27.
[5]  - محمد بن أحمد الأنصـاري القرطبي: الجامع لأحكام القـرآن، دار الـكتب العـلمية، بيروت 1988، ج1، ص : 247
[6] - سورة يوسف، الآية: 66.
[7]- القرطبي، م.س، الجزء 9 ، ص :255.
[8] - أبو عبد الله محمد ابن فرحون: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416/1995، ج 1، ص: 200.
[9] - أبو العباس أحمد بن يحيي بن عبد الواحد الونشريسي: المنهج الفائق والمنهل الرائق  والمعنى اللائق بآداب  الموثق وأحكام الوثائق، دراسة وتحقيق لطيفة الحسني، طبعة وزارة الأوقاف الرباط 1418 هـ /1997م ، ص: 209 .
[10]  شرح عبد السلام الهواري لوثائق  الفقيه بناني: مطبعة الشريف، دار الكتب العربية تونس 1949 م . ص: 1.
[11]  شمس الدين السرخسي: كتاب المبسوط، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، لبنان، ج: 30 ص: 167.
[12] - أبو الشتاء الصنهاجي الغازي الحسيني: م. س، ج:1، ص :1.
[13]  - الونشريسي: المنهج الفائق، م.س، ص: 209.
[14] -  شمس الدين السرخسي: م.س، ص: 168.
[15] - جميل محمد مبارك: التوثيق والإثبات بالكتابة في الفقه الإسلامي والقانون الوضـعي، مطبـعة النجـاح 1421/ 2000 الدار البيضاء، ص13.
[16] - جميل محمد مبارك: م.س، ص: 44.
[17] - سورة يس، الآية : 12.
[18] - سورة الزخرف، الآية : 19.
[19] - سورة الزخرف، الآية : 79.
[20] - سورة الكهف، الآية: 49.
[21] - سورة  البقرة، الآية: 282.
[22] - سورة البقرة، الآية: 282.
[23] - نفس الآية.
[24] - سورة البقرة، الآية : 282.
[25] - نفس الآية.
[26] - نفس الآية.
[27]  -نفس الآية.
[28] - سورة الطلاق الآية 2.
[29] - سورة البقرة الآية : 281.
[30] - سورة المائدة الآية : 106.
[31] - سورة النساء، الآية: 15.
[32] - سورة النور، الآية: 8.
[33] - سورة الطلاق، الآية: 2.
[34] - سورة النساء، الآية 95.
[35] - الإمام البخاري: صحيح البخاري، الطبعة الخامسة 1414/ 1993.
[36] - رواه أبو داوود: في كتاب العلم، باب كتابة العلم دار الحديث القاهرة: 1393/1973 والدراني في سننه في المقدمة باب من رخص في كتابة العلم، وأحمد في المسند 2/ 162، دار صادر لبنان بدون طبعة.
[37] - محمد حميد الله : مجموعة الوثائق السياسـية للعهـد النـبوي، دار النفـائس، الطبـعـة السادسة 1987، صص: 129-130.
[38] - أبو الإسحاق الغرناطي: الوثائق المختصرة، أعدها مصطفى ناجي، مركز إحياء التراث المغربي، 1988م، ص:12.
39- الونشريسي، م . س ، ص: 139.
[40]- لسان الدين بن الخطيب مثلى الطريقة في ذم الوثيقة، تحقيق عبد المجيد التركي طبعة سنة 1983 المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر.ص:95.
[41] - لسان الدين بن الخطيب: نفس المرجع، ص1.
[42] - سورة النساء، الآية : 5.
[43] -  علي محمود قراعة:  الأصول  القضائية  في المرافعات الشرعية، دار مصر للطباعة، القاهرة، ص: 288.
[44] - نفس المرجع، ص : 289.
[45] - الزريقي: م.س، ص: 20.
[46] - الكتاني: التراتيب الإدارية والعمالات الصناعية، 1946، ج: 1، ص: 274.
[47] - أبو إسحاق الغرناطي: م.س ، ص 12.
[48] - سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، المطبعة المصرية، ج: 87 ص: 50.
[49]- عبد الحفيظ العلوي المكودي: جملة تاريخ التوثيق والإشهاد، منشور بمجلة القضاء والقانون عدد 28، أبريل 1960، ص:205.
[50] -عمر الجيدي: محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، منشورات عكاظ، مطبعة النجاح، البيضاء، ص: 119.
[51] - أبو الشتاء الصنهاجي: م.س، ج : 1، ص: 2.
[52] - شرح الهواري لوثائق بناني: م.س، ص 6.
[53] - بحث الأستاذ محمد بن عبد الله "ناظر الوقف" دعوة الحق العدد 283 دجنبر 1984، ص 56.
[54] - نفس المصدر والصفحة.
[55] - نفس المصدر، ص : 59.
[56] - الفقرة  الأولى  من الفصل الثالث من ظهير 7 يوليوز 1914.
[57] - الفقرة  الثانية من الفصل الثالث من ظهير 7 يوليوز 1914.
[58] - الفصل الخامس من ظهير 7 يوليوز 1914.
[59] - الفصل الثاني من منشور عدد 5134، المتعلق بكناش الجيب.
[60] - الفصل الثاني من ظهير 7 فبراير 1944.
[61] - الفصل الأول من ظهير 6 ماي 1982.
[62] -Jean Yaigre : droit pr
-]  ظهير 10 شوال 1343هـ /4 ماي 1925.

مواضيع قد تهمك
  1. وضعية الأجراء في ظل مساطر معالجة صعوبات المقاولة بين التشريعين المغربي والفرنسي
  2. بحث حول موضوع وثيقة تدبير الاموال المكتسبة بين الزوجين
  3. هيئات التوظيف الجماعي للقيم المنقولة تحت إشراف د.أحمد شكري السباعي

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات